
يتمثل الذكاء الاصطناعي في أجهزة مصمّمة لأداء مهام تحاكي تلك التي يؤدّيها تقليديّا الذّكاء البشري. وتقوم تلك الأجهزة بمعالجة بيانات متأتية من مصادر خارجية، وتحليل تلك البيانات، وتستخدم المعلومات التي لديها كي تطابق المهام المطلوبة، للتوصّل إلى تحقيق نتائج محدّدة ومخصّصة.
هناك من يخشى الذكاء الاصطناعي، لأنّه يهدّد وظائف البعض، بينما يمتدحه آخرون لقدرته على استحداث وظائف وخلق فرص جديدة.لقد أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم في قلب التّحديات الجديدة لعالم الشغل، لكنّ السؤال المطروح هو كيف يمكن تكييف الاستعمالات والتشريعات بالشكل الصّحيح حتّى تتحقّق الاستفادة من هذه التكنولوجيات الجديدة مع الحفاظ في نفس الوقت على الوظائف والموظفين.
الذكاء الاصطناعي: تهديد للفرص أم مولّد لها ؟
تقدّر “مؤسّسة غولدمان ساكس”، الرّائدة عالميًا في مجال الخدمات المصرفيّة الاستثمارية وأسواق رأس المال وإدارة الأصول، أنّ 300 مليون وظيفة قد تنقرض بسبب الذكاء الاصطناعي؛ من المهن الماهرة إلى تلك التي تتطلب عملًا بشريّا يدويّا، ومازالت قائمة الوظائف تطول. ووفقا لدراسة أخرى أعدّها “معهد ماكينزي العالمي” فإنّ قرابة 800 مليون وظيفة في العالم يمكن أن تهدّدها الأتمتة بحلول عام 2030. وكشفت الدراسة أيضًا أنّ الوظائف التي تتطلب مهارات يدوية ومعرفيّة أساسية هي المرشحة أكثر أن تصبح آليّة، على عكس الوظائف التي تتطلب مهارات اجتماعية وعاطفية. كما بيّن المنتدى الاقتصادي العالمي من جهته، أنّ الأتمتة يمكن أن تؤدّي إلى فقدان 75 مليون وظيفة بحلول عام 2025، لكنّها قد تخلق أيضًا بالمقابل، 133 مليون وظيفة جديدة في قطاعات أخرى على غرار الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والتكنولوجيات الناشئة.
إنّ وظائف في قطاعات كالإنتاج والتصنيع والخدمات اللوجستية (النقل والإمداد) مهدّدة بوجه خاصّ، بالذكاء الاصطناعي. فقد مكّن التقدم المحرز في مجال الروبوتات إلى صنع روبوتات قادرة على تعويض البشر في القيام بالعديد من المهام. وعلى سبيل المثال، أدّى استخدام أمازون الروبوتات في عملية فرز الطرود في مستودعاتها، إلى إلغاء بعض وظائف الفرز التي يقوم بها عمّال. وعلى نحو مماثل، فإنّ العربات ذاتية القيادة بصدد إحداث ثورة في قطاع النقل، وهو ما قد يؤدّي إلى إلغاء العديد من الوظائف في قيادة الشاحنات وسيارات الأجرة. وقد نشرت بعض المدن، مثل لندن، بالفعل روبوتات تعمل في جمع القمامة، بينما في هلسنكي، تعمل مكنسة كهربائية ذاتية القيادة تسمّى “ترومبيا فري”، في تنظيف الشوارع والطرق الرّئيسية في العاصمة الفنلندية منذ عام 2021.
وكذلك الشأن بالنسبة لمراكز الاتصالات فهي الأخرى مهدّدة بالذّكاء الاصطناعي. وقد تم استخدام روبوتات المحادثة (Chatbots)، التي هي برامج للذكاء الاصطناعي مصممة للتفاعل مع الحرفاء، على نطاق واسع لأتمتة مهام معينة لخدمة العملاء. فعلى سبيل المثال، تستخدم “هاش أند آم”(H&M) برنامج المحادثة الآلي لمساعدة الحرفاء على اختيار الملابس بناءً على ميولاتهم وميزانيتهم. وبمقدور روبوتات المحادثة الإجابة بسرعة على استفسارات الحرفاء وتنفيذ مهام متكررة، مما يمكّن المؤسّسات من خفض تكاليفها وتحسين كفاءتها.
وبقدر ما يهدّد الذكاء الاصطناعي من وظائف كثيرة، فإنّه يمثل فرصة لا حصر لها للاقتصاد العالمي؛ ففي دراسة أجرتها “شركة برايس ووترهاوس كوبر”، من المرجّح أن يُسهِم الذكاء الاصطناعي في عام 2030، بنحو 15700 مليار دولار في الاقتصاد العالمي – أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي الحالي لكلّ من الصين والهند مجتمعتين. ووفقا للمصدر نفسه، فإنّ أكثر من نصف الفوائد الاقتصاديّة التي تتحقّق من الذّكاء الاصطناعي بين عامي 2016 و2030 ستتأتى من المكاسب العائدة من انتاجية العمل. وسيوفّر تطوير الذّكاء الاصطناعي للموظفين متّسعا من الوقت للتّركيز على مهام ذات قيمة مضافة أعلى. كما أنّ زيادة الاستهلاك، سيكون عاملا إضافيّا للنمو في هذا المجال بسبب تسويق منتجات أكثر تخصيصًا أو ذات جودة أعلى تستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي. ومن بين القطاعات الثمانية التي تمّ تناولها بالتحليل، سيكون أوّل المتأثرين:
● قطاع الصحة: بتحسين المساعدة في عملية التشخيص من خلال استخدام البيانات وتحديد الأوبئة.
● قطاع السيارات: السيارات الذكية والمساعدة في القيادة.
● القطاع المالي : إمكانية التخطيط المالي المخصَّص، وكشف عمليات الاحتيال ومكافحة غسيل الأموال.
وجوب الإسراع بمراجعة المهارات والتشريعات
ترتبط إحدى أكبر التّحدّيات التي يفرضها الذّكاء الاصطناعي بعدم المساواة. فمع تقدم التكنولوجيا، يتّجه سوق العمل أكثر إلى استقطاب الأشخاص ذوي المهارات العالية. وتشهد الاقتصادات النّاشئة والمتقدّمة زيادة الطلب على المهارات، بينما يقلّ هذا الإقبال في البلدان النّامية، متسبّبا بذلك في نشوء فوارق هامّة. على مدى العقدين الماضيين، أدّت الأتمتة والذّكاء الاصطناعي إلى إلغاء وظائف تتطلب مهارات متوسّطة. وعادة ما يكون لدى الأفراد في هذه الوظائف فرصا قليلة للانتقال إلى وظائف المهارات العالية. ونتيجة لذلك، فإنّهم غالبا ما يلجأون إلى وظائف منخفضة المهارات، ممّا يؤدّي إلى تفاقم أوجه انعدام المساواة. ويرجّح أن تشهد هذه الظاهرة تصاعدا في المستقبل.
هناك تحدّ آخر مرتبط بالتفاوتات الاجتماعيّة التي يمكن أن تشمل أنواع التمييز على أساس الجنس أو تفاقم عدم المساواة في توزيع الثروة؛ فبينما يستطيع الأفراد الذين يملكون الموارد المالية اللازمة، تلقي التدريب على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الجديدة، يخشى أن يبقى الأفراد الأقلّ حظّا مهمّشين أمام هذه التطوّرات.
وفي مواجهة الآثار السلبية للذّكاء الاصطناعي، فإنّ التدريب المستمر للموظفين هو وحده الكفيل بتقديم الاستجابة المطلوبة، بغض النظر عن مستوى مؤهّلاتهم. إنّ انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في سوق العمل يمكنه أنّ يؤدّي بالفعل إلى تكثيف الطلب على المهارات التحليلية ومهارات حلّ المشاكل والتفكير النّقدي وقدرات العمل الجماعي.
يمكن للعمال الذين يطورون هذه المهارات المستعرضة التأقلم بسهولة أكبر مع التغييرات التي يحدثها الذكاء الاصطناعي والاستفادة من آفاق أفضل في العمل.
بيد أنّ، التعليم المستمر يتطلّب موارد ماليّة هامّة بالإضافة إلى حملات اتصال وتوعية قوية حتى يكون أكبر عدد ممكن من الأشخاص على دراية بالمهارات اللازمة للتأقلم مع الذكاء الاصطناعي أو بفرص التدريب المتاحة. ويجب أيضًا أن تتكيّف أنظمة التعليم والتدريب حتى تلبّي الاحتياجات الجديدة لسوق العمل. ولتخطّي مختلف هذه العقبات، على الشركاء الاجتماعيين والحكومات العمل معًا لإقامة شراكات تعزّز التكوين المستمر للعمّال. ويمكن أن يشمل ذلك مبادرات التمويل المشتركة، وبرامج تدريب تركّز على المهارات التي يبحث عنها أصحاب العمل، ومبادرات تعاون لوضع برامج تعليميّة متناسبة مع احتياجات سوق العمل.ومن المهم القيام بحملات تحسيسية لتعريف العمال على المهارات المطلوبة في سوق العمل الجديدة باستخدام الذكاء الاصطناعي. فبالإمكان وضع الموارد على شبكة الإنترنات، وتنظيم دورات إعلامية، وورشات وإقامة فعاليات لنشر هذه المعلومات وتحفيز العمّال على التدريب لاكتساب المهارات. ومن المهم توفير التدريبات بكيفية يستطيع العاملون متابعتها بتوقيت جزئي، بواسطة الإنترنات أو عن بعد، حتى تتلائم مع التزاماتهم المهنيّة والشخصيّة.
وفيما يتعلق بالإشراف على الذّكاء الاصطناعي واستخدامه، يتوجّب على السّلطات العامة وضع السياسات واللوائح التي تعرّف بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي ومعايير السلامة في استعماله. ويشمل ذلك قواعد حماية الحياة الشخصية، وشفافية الخوارزميات، والمسؤولية في حال حصول ضرر ناجم عن أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتقييم المخاطر والآثار الاجتماعية.
من واجب الحكومات أيضًا الحرص على ألاّ يؤدّي اعتماد الذكاء الاصطناعي إلى تعميق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. وينطوي ذلك على وضع سياسات وبرامج لضمان الوصول العادل إلى الذّكاء الاصطناعي، ودعم الفئات الضعيفة من السكان، وتشجيع التّنوع والاندماج في فرق تطوير الذكاء الاصطناعي، وتخفيف الآثار السّلبيّة على التوظيف. ويجب تحديث تشريعات العمل لتأخذ في الاعتبار الآثار المترتبة عن استعمال الذكاء الاصطناعي على ظروف العمل.
وأخيرا، من المهم تعزيز تمثيل العمّال والنّقابات في النّقاشات وعمليّات صنع القرار المتعلّقة بالذّكاء الاصطناعي. كما يجب تعزيز آليات الحوار الاجتماعي لتمكين العاملين من التّعبير عمّا يشغلهم والمشاركة في القرارات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والمطالبة بحقوقهم.