
كشفت النسخة العاشرة من مؤشر الحقوق في العالم للاتحاد الدّولي للنقابات التأثير المباشر لأزمة تكلفة المعيشة على العمال، سواء أكان ذلك في البلدان ذات الدخل المرتفع أو في البلدان منخفضة الدخل. وقابلت الحكومات هذا الواقع، بالتعدّي الكبير على حقوق العمال؛ ووفقًا
لبيانات الاتحاد الدّولي للنقابات، تمّت ملاحظة انتهاكات للحق في الإضراب في 90% من البلدان، بينما لوحظت الانتهاكات المتعلقة بالحقّ في المفاوضة الجماعيّة في 80% من البلدان.
من ميانمار إلى فرنسا، يطالب العمّال باحترام حقوقهم، لكنّ مطالبهم لا تلقى سوى اللامبالاة، بل ويتمّ قمعها بعنف على يد قوات الأمن بشكل متزايد. وفي هذه الصّورة القاتمة، لا تزال المنطقة العربيّة تحتل المكانة المؤسفة، كأسوأ منطقة في العالم في هذا المؤشر.
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تدهور مستمرّ
ما تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي هزتها نزاعات مسلّحة كبرى، بالخصوص في ليبيا وفلسطين وسوريا واليمن، هي الأسوأ في العالم من حيث حقوق العمّال حيث حصلت على تقييم 4,53 في المؤشّر عام 2023.
وعلى الرّغم من التقدّم الذي حققته قطر في مجال الكفالة، يستمرّ العمل بهذا النظام في العديد من دول الخليج. وبينما يمثل العمال المهاجرون الغالبيّة العظمى من اليد العاملة في المنطقة، إلاّ أنّهم مازالوا يتعرّضون لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وفي الجزائر ومصر، لا تزال النّقابات المستقلة تواجه صعوبات في التسجيل من قبل حكومات معادية، مما يعيق بشكل كبير قدرتها على العمل بفعالية.
ويعد التسجيل القانوني والرسمي عنصرًا أساسيا في الحق النقابي، حيث أنّه الخطوة الأولى التي يجب على أي منظمة عمّالية اتخاذها لكي تتمكن من العمل بفعالية وتمثّل منظوريها التمثيل الملائم. ولكن لسوء الحظ، من أبريل 2022 إلى مارس 2023، عرقلت السلطات أو ألغت تسجيل نقابات بشكل تعسفي، بل إنها قامت بحلّ بعض النقابات في 109 دول من أصل 149 دولة في المؤشر. هذه الممارسات تصادر حرية التجمّع وحق العاملين في
الانضمام إلى نقابة، ممّا يعيق قدرتهم على الدّفاع عن مصالحهم وتحسين ظروف عملهم. وتتكرر هذه الإشكالية باستمرار خصوصا في مصر حيث تعمَد السلطات إلى منع تشكيل النّقابات العمالية المستقلة. ففي عام 2018، أصدرت الحكومة المصريّة قانونا يعرقل تشكيل النّقابات العمّالية المستقلّة ويخضعها لمحض إرادة سلطات الإشراف، ولا سيما وزارة العمل. ودائما في مصر، لاحظ مؤشر الحقوق في العالم للاتحاد الدولي للنقابات لعام 2023، أنّ حق العمّال في التجمع والتظاهر يخضع لقيود مشدّدة من قبل السلطات التي لا تتردّد في استخدام القوة والعنف لإخماد أي تحرك اجتماعي أو عماليّ.
علاوة على الانتهاكات والعنف ميدانيّا، تقوم بعض الحكومات في المنطقة العربية بوضع نصوص تشريعية رجعيّة، نالت بشدّة من الحقوق الأساسية للعمال والعاملات. في يناير 2023، اقترحت الحكومة الجزائرية تعديلات على القانون 90/14، المتعلق بكيفيات ممارسة الحق النقابي، والذي -إذا ما تم التصديق عليها – سيكون له أثر كبير على الحقوق النقابية في البلاد. وخلال كامل مسار إعداد هذا المشروع لم تقم السلطات باستشارة النقابات العمالية المستقلة.
تونس تنظمّ إلى الترتيب المحزن لأسوأ عشرة بلدان في العالم بالنسبة للعمال
في تونس، أدلى الرئيس قيس سعيد بتصريحات معادية للنقابات العمالية، ممّا أعطى الضوء الأخضر لسلسلة من الأعمال العدائية والهجومات الممنهجة ضدّ النقابيين. وشهد العام الماضي اعتقالات وانتهاكات لحق المفاوضة الجماعية، في حين مُنعت المنظمات النقابية الدولية من إظهار تضامنها مع نظيراتها من النقابات المحلية. ويشير الاتحاد الدولي للنقابات إلى أنّ هذا الوضع يبعث على القلق بشأن حماية الحقوق الديمقراطية والنقابية في تونس.
وقد جدّت في يناير 2023، واقعة من أكثر الأحداث التي أثّرت في المشهد النقابي التونسي، حيث تمّ اعتقال الكاتب العام لنقابة أعوان شركة تونس للطرقات السيارة، أنيس الكعبي، على
إثر تنظيم إضراب يومي 30 و 31 يناير. وكانت مطالب الأعوان المضربين تتمثل في تجديد عقد التشغيل للطريق السريع الرابط بين العاصمة تونس ومدينة مساكن، الذي من المنتظر أن تنتهي أشغاله في عام 2025. كما طالبوا بتفعيل زيادات في الرواتب نصّ عليها اتفاق كان أمضي بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة في سبتمبر 2022، وكذلك بإعطائهم الزّي الرّسمي الذي وُعِدُوا به منذ خمسة أعوام خلت.
وقامت قوات الأمن بتفتيش منزل أنيس الكعبي دون إخبار أسرته بمكان وجوده. ولم يتمكّن سوى في وقت متأخّر من المساء من إجراء مكالمة هاتفية مع عائلته ليطلب منهم إرسال محامٍ إلى مركز شرطة منطقة “القُرْجَانِي” بالعاصمة. ويأتي هذا الاعتقال مباشرة عقب شكوى رفعتها شركة تونس للطرقات السيارة ضدّ السيد الكعبي، بدعوى تكبدها “خسائر مالية بسبب الإضراب” بترك مسالك العبور مفتوحة أمام السيارات مجّانا. وجاء اعتقال الكعبي بعد تصريحات مُتَوَعِّدَة لرئيس الجمهوريّة أعلن فيها أنّ النّقابيين الذين هدّدوا بإغلاق الطرقات السيارة ” يجب أن يحاسبوا” .
على إثر هذه القضية، نظم الاتحاد العام التونسي للشغل سلسلة من المظاهرات في عدّة مناطق من البلاد. واستقبلت المنظمة النقابية استير لينش، الأمينة العامة للاتحاد الأوروبي للنقابات، التي قدمت في إطار التضامن مع النقابيين التونسيين. غير أنّ رئاسة الجمهورية أصدرت أمرا بطرد إستر لينش، متهمة إياها بالتدخل في الشأن الداخلي على خلفيّة تصريحاتها خلال المظاهرة.
وبعد مرور أسبوعين على هذه الحادثة، تمّ منع ماركو بيريز مولينا، المسؤول عن التعاون مع إفريقيا وآسيا في الاتحاد العام لعمال إسبانيا (CEC – UGT) من دخول الأراضي التونسية وتمّ إرجاعه من مطار تونس قرطاج. وقد قدم إلى تونس تضامنا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، كممثل للنقابات العمالية الدولية المنضوية ضمن الاتحاد الدولي للنقابات،
ولكن تمّ منع ماركو بيريز مولينا من دخول الأراضي التونسية “لأسباب تتعلق بالأمن الداخلي”، بحسب ما أبلغته به مصالح الأمن التونسية.
وتعقيبا على المعطيات المقلقة التي كشفها هذا التقرير، صرّح لوك تريانغل، الأمين العام بالنّيابة للاتحاد الدولي للنقابات بأنّه: « فيما لا يجد العمال من خيار أمامهم سوى المطالبة بأجور أفضل في مواجهة أزمة تكلفة المعيشة الأسوأ منذ عقود، فإن تسعة من كل عشرة بلدان تنتهك حقهم في الإضراب. وفي الوقت الذي يحتاجون فيه إلى هياكل تمثيلية لتبليغ مطالبهم إلى أرباب العمل، تصادر ثمانية من عشر بلدان حقهم في المفاوضة الجماعية. عندما تنتهك ما يقرب من نصف الدول التي شملتها الدراسة الحق في الحريات المدنية، فإنّ أسس الديمقراطية وركائزها بالذات هي المستهدفة. لا يسعنا إلاّ أن نشدّد على الصلة الواضحة القائمة بين احترام حقوق العاملين ومتانة أيّ ديمقراطية. إن تقويض أحدهما يعني تدهور الآخر. إنّ الخطر يحدق بديمقراطياتنا».
كما أكّدت السكرتيرة التنفيذية للاتحاد العربي للنقابات، هند بن عمار، من جهتها، أنّ نتائج مؤشر الاتحاد الدولي للنقابات ليست مفاجئة بالنظر إلى الانتهاكات المسجلة في المنطقة العربية والتي تنبئ بهذا التصنيف. وأضافت موضحة: «إنّ دخول تونس في تصنيف أسوأ عشر دول في العالم بالنسبة للعمال، أمر مثير للقلق بشكل خاص. فلطالما كانت هذه البلاد بالفعل مرجعًا في المنطقة في ميدان الحوار الاجتماعي، لا سيما بفضل الدور الذي اضطلع به الاتحاد العام التونسي للشغل دوما، في الحفاظ على حوار بناء مع شركائه الاجتماعيين الآخرين. لقد ساهم الاتحاد العام التونسي للشغل في أهمّ المحطات التّاريخية لتونس وكان دائما رائدًا في تحرير البلاد وبناء الدّولة الحديثة. إلاّ أنّه تجدر الإشارة أيضا إلى أنّ التّراجع الحاصل في مجال الحقوق والحرّيات أصبح مع الأسف تمشّيا عالميّا وعامّا; فنحن نعيش، منذ الأزمة الصحية، في مناخ من العداء تجاه النّقابات، التي أصبحت هدفا للكثير من حملات الشيطنة. إنّ التضامن النّقابي في كل مكان من العالم أصبح اليوم ضروريّا لمواجهة هذا الواقع».