اليوم العالمي للبيئة: كيف نحافظ على الوظائف مع التصدّي لتغير المناخ !

© رويترز

 

يبدو السياق الحالي باعثا على القلق، إذ أصبحنا نشهد آثار تغير المناخ أكثر فأكثر، مع بلوغ الحرارة درجات قياسية، وظواهر مناخية شديدة، وفقدان متسارع للتنوع البيولوجي. لقد بات كوكبنا بلا شكّ، يواجه أزمة مناخية غير مسبوقة. وأمام هذا الواقع، فإنّ اليوم العالمي للبيئة يكتسي أهمية متزايدة كمنصة عالمية للتوعية والتعبئة لحماية نظامنا البيئي الهش.

 

وإذا كان لتغير المناخ تأثير على جوانب عديدة من الحياة البشرية (الظروف المناخية، وانتشار فيروسات جديدة والهجرة وحركة التنقل البشري إلخ…) فإنّ له في الوقت ذاته، تبعات سلبية على عالم العمل، بشكل خاصّ، كانخفاض الإنتاجية، ونقص فرص العمل وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي. ووفقًا لدراسات حديثة أجراها مكتب العمل الدولي، يتوقّع أن تفضي زيادة درجة الحرارة العالمية بمقدار 1.5 درجة بحلول عام 2030 ، إلى نقص بنسبة 2.2% من اجمالي ساعات العمل، وهو ما يعادل فقدان 80 مليون وظيفة بدوام كامل.

 

تغير المناخ وعالم الشغل : التأثير بات ملموسا

 

إنّ لتغيّر المناخ إلى جانب الجهود الرّامية إلى التكيّف معه وخفض الانبعاثات، آثارا هامّة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهياكل الإنتاج والاستهلاك، والتشغيل،

والدخل المادّي، والحدّ من الفقر. وتتجلّى المخاطر بوضوح أكبر، في الأمن الغذائي والاقتصادي، لا سيما في المناطق والقطاعات المعتمدة على الزراعة. فوفقًا لتقرير ستيرن حول اقتصاديات التغير المناخي، يعتمد 22% من سكان العالم على الزراعة، وهو القطاع الذي يتركّز فيه أكبر عدد من الفقراء في العالم (75% من الناس الأشدّ فقرا أي ما يساوي مليار شخص يعيشون على أقلّ من دولار واحد في اليوم).

 

ويهدّد تغيّر المناخ أيضا تحقيق أهداف التنمية للألفية، بسبب تداعياته على مصادر الدّخل الزراعية، وهو تهديد تفاقم بسبب الارتفاع الأخير في أسعار المواد الغذائية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ لتغير المناخ تأثيرا على صحة العاملين، وتحديدا في البلدان النامية، وهو ما يمثل تهديدا آخر للأهداف الإنمائية للألفية. ويعدّ قطاع السياحة، الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على أحوال الطقس، مثالاً آخر على قطاع شهد نموّا سريعا في تشغيل اليد العاملة ومن المرجح أن يتأثر هو بدوره.

 

في دراسة حديثة، قدّرت منظمة العمل الدّولية أنّه بحلول سنة 2030، سيؤدّي تنفيذ اتفاق باريس وسياسات الطاقة المنبثقة عنه إلى خسارة 6 ملايين وظيفة إجمالا. وسيكون لهذه النقلة نحو أنشطة اقتصادية أكثر استدامة، واعتمادها مصادر طاقة متجدّدة، تأثير كبير على سوق العمل، يصاحبه فقدان للوظائف في بعض القطاعات وانبعاث فرص عمل جديدة في قطاعات أخرى. هذه الأرقام تبرز الأهمية التي يكتسيها الانتقال العادل والمنصف، مع سياسات مناسبة وتدابير مرافقة لدعم العاملين المتضرّرين من هذه التغييرات الهيكلية.

 

وعلى الرّغم من صعوبة التنبؤ بالوظائف التي سيكون مآلها الانقراض، نظرا لأنّ كثيرا من الوظائف الحاليّة غير المستدامة، يمكن تحويلها من خلال اعتماد التكنولوجيات المتعلّقة بـ”الفحم النظيف”، فإنّ الوظائف المرتبطة باستغلال الوقود الأحفوري آخذة في الإنخفاض. وهو انخفاض يمكن أن يعزى إلى عوامل مختلفة لا ترتبط بالضرورة بالتدابير المتخذة للتصدّي لتغير المناخ.

 

التصدّي لتغير المناخ مع الحفاظ على الوظائف: الحلول المطروحة

 

يمكن للاستثمارات الكبيرة في التكيف أن تولّد عددًا هامّا من الوظائف وفرص الدّخل في مجالات مختلفة، مثل توسيع نطاق حماية السواحل، وتقوية المباني والبنى التحتية، وإدارة المياه وجمع المحاصيل الزّراعية. وللنجاح في التكيّف سيكون من الضروري اعتماد تكنولوجيات جديدة على نطاق واسع وتحويل المؤسّسات والصناعات من المناطق المعرضة للخطر.

 

فعلى سبيل المثال يمكن أن يكون للتكيّف في القطاع الزراعي، أثر إيجابي أو سلبي على التشغيل والدّخل المادّي، وذلك تبعاً لحجم اليد العاملة الذي تتطلبه الزراعات الجديدة، والممارسات الزراعية المتبعة ومدى توافقها مع المزارع الصغيرة. وحتّى يتسنّى الاستثمار في عملية التّكيّف، من الضروري أن يحصل المزارعون ذوو الدخل المنخفض والشركات الصغيرة والمجتمعات المحلية المحرومة على التمويلات في ظروف جيّدة. ويتطلب ذلك مساهمة الجهات المانحة، ووضع سياسات واضحة من جانب الحكومات، مثلما يتضح من تجارب العديد من البلدان التي اعتمدت بالفعل برامج وطنية للتنمية المستدامة.

 

ووفقا لدراسة أعدتها منظمة العمل الدولية واستندت أساسًا إلى تقييمات كمّيّة أجريت في البلدان الصناعيّة، يتبيّن أنّ الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون يجب أن يؤدّي إلى زيادة ملحوظة في الوظائف عموما. غير أنّ هذا المكسب الصغير هو نتيجة لتحوّلات عميقة في أسواق العمل، تنطوي على خسائر كبيرة في الوظائف في بعض القطاعات، تقابلها زيادة أكبر في قطاعات أخرى. ومن المعقول أيضًا افتراض أنّ تكون أغلب الوظائف المفقودة هي وظائف ذات رواتب جيدة، وفي قطاعات منظّمة نقابيا، مثل صناعات الوقود الأحفوري. فإذا كان الأمر كذلك، فإنّه من المشروع التشديد على الدور الذي يمكن أن تلعبه المفاوضة الجماعية في تيسير تعديل سوق العمل مع الحدّ، في نفس الوقت، من التكاليف الاجتماعية. ويمكن أن تتناول هذه المفاوضات، بالخصوص، المهارات اللازمة لتسهيل هذا الانتقال.

 

موقف الحركة النقابية من السياسات المسؤولة بيئياً

 

إنّ التهديدات التي تنطوي عليها سياسات التكيّف مع التغيّر المناخي، على سوق العمل واستقرار الوظائف، من بين المشاغل الرئيسية للحركة النّقابيّة في جميع أنحاء العالم وفي المنطقة العربية بوجه خاصّ.

 

وقد برز هذا القلق مؤخّرًا في قضية انقسم حولها الرّأي العام التونسي إلى حدّ كبير. وهي قضية إغلاق مصنع معالجة الفوسفات التابع لشركة سياب (المجمع الكيميائي التونسي)، ومقرّه في صفاقس الذي يشتبه في قيامه بأنشطة مسبّبة لتلوّث بيئي كبير.

 

منذ أوائل هذا القرن، طالب سكّان مدينة صفاقس بإغلاق المصنع – الذي كان يشغّل 450 عاملا قارّا بالإضافة إلى وظائف أخرى غير مباشرة تقدّر بنحو 150 وظيفة- بسبب التلوّث الذي كان ينتج عنه. ويقع المصنع على بعد 4 كيلومترات فقط من وسط المدينة، في قلب المنطقة الحضرية، ويعمل في إنتاج الفوسفات الثلاثي (TSP) وكان يطلق انبعاثات من الأبخرة الحمضية في الهواء وينتج مادة الفوسفوجيبس، وهي

نفايات صناعية غنية بحمض الهيدروفلوريك عالي السمّية والمشع قليلاً. وقدّرت شركة “كوميت إنجنييرينغ” في عام 2008، تكلفة التدهور البيئي الناجم عن المصنع بحوالي 683 مليون دينار (214.6 مليون يورو). وفي ديسمبر 2016، أطلقت العديد من الجمعيات والمنظمات ومكونات المجتمع عريضة تطالب الحكومة بإغلاق مصنع “سياب” وتفكيكه لوضع حدّ للأضرار الناجمة عن أنشطته على البيئة.

 

إلاّ أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل عارض إغلاق المصنع، مؤكّدا عدم وجود أيّ دراسة علميّة شاملة تقدّم طرقًا فعّالة للحدّ من التلوث مع المحافظة على حقوق العاملين.

 

وفي ظل غياب اتفاق يأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على البيئة مع حماية العمال من خطر التسريح، أكّد العديد من المسؤولين النّقابيين بالاتحاد العام التونسي للشغل، وبعضهم يعمل في نفس المصنع، أنّ أنشطته غير مضرّة بالبيئة، مشيرين إلى أنّ المنظمة لن تخاطر أبدا بتعريض صحّة منظوريها وسكان مدينة صفاقس لمثل هذا الخطر. وأدّت هذه المعارضة إلى تأجيل إغلاق وتفكيك المصنع عدّة مرات، قبل أن ينتهي الأمر بتنفيذ الاغلاق في آب/أغسطس 2019.

 

لكنّ هذا الإغلاق لم يمنع الاتحاد العام التونسي للشغل من مواصلة جهوده للحفاظ على سوق العمل في المنطقة. فبعد عدّة جلسات تفاوضية، توصّلت المنظمة إلى الحصول على التزام من وزارة الصناعة، بالعمل على تحويل مساحة “210 هكتار تابعة للمصنع لإقامة قطب تقني ومركز أبحاث ومنطقة خضراء ومجمّع رياضي”. بالشراكة مع المجمع الكيميائي التونسي، والتزمت الدّولة التونسية بصناعة 4.0 تعنى بالبيئة.

 

حالة “سياب” ليست منعزلة، فقد تتكرّر في مناطق أخرى من تونس، مثل قابس أو رادس، حيث تؤثر العديد من الأنشطة الصناعية بشكل خطير على البيئة هناك، في حين لم يتمّ بعد اتخاذ أي تدابير لوقف هذه الأنشطة الخطيرة على المناخ وتكون محافظة على الوظائف .

 

هذه الحالة تعكس تمامًا المعادلة الحسّاسة لمكافحة تغيّر المناخ والحفاظ على الوظائف؛ ولا يمكن التوصّل إلى حلّ هذه المعادلة بشكل عادل إلاّ من خلال دور تلعبه الحركة النقابية التي، يمكنها – لا سيما بواسطة المفاوضة الجماعية – أن تشارك الحكومات وأصحاب العمل في تطبيق سياسات التّحول البيئي مع ضمان الحفاظ على الوظائف وحقوق العاملين.