تعرّف منظمة العمل الدولية العمل اللاّئق بأنّه مفهوم يشمل التطلعات الأساسيّة للأفراد فيما يتعلّق بعملهم. وهو يشمل عناصر مختلفة مثل الحصول على وظائف منتجة بأجر مناسب، والسّلامة في مكان العمل والحماية الاجتماعيّة للجميع، وآفاق للتنمية الشخصية والاندماج الاجتماعي، وحرية التعبير وحق التنظّم النقابي، فضلا عن تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة بين الجنسين.
هذه المبادئ لا تجد لها صدى في اقتصاد المنصات حيث يعمل موظفو التوصيل غالبًا لصالح شركات تعتبرهم عاملين لحسابهم الخاص وليسوا موظفين، وذلك يمكّنها من تجنّب منحهم الحماية الاجتماعية والمزايا الأخرى المرتبطة بالتوظيف. وغالبًا ما تعتمد منصات التوصيل الرقمية سياسات تعاقدية لا تضمن الحدّ الأدنى للأجور أو جداول عمل منتظمة، ممّا قد يؤدّي إلى مداخيل غير مستقرّة وغير متوقّعة لموظّفي التّوصيل. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يكون عمّال التّوصيل من المهاجرين أو العمّال غير المستقرّين الذين قد لا يكونون على معرفة بحقوقهم أو قد يخشون المطالبة بحقوقهم بسبب وضعهم الهش في العمل.
ويسجّل أيضًا غياب لتشريعات واضحة للعاملين في منصات التوصيل في معظم البلدان العربية، ممّا قد يجعل من الصعب تطبيق قوانين العمل القائمة ووضع تدابير حماية جديدة.
أعوان التوصيل بين الهشاشة ومخاطر متعدّدة
إنّها مسألة كسب للرّزق قبل كل شيء. فأعوان التّوصيل بدراجة هوائيّة أو دراجة نارية وهاتف ذكي، يقطعون مئات الكيلومترات في اليوم لتقديم أكبر عدد ممكن من الطلبات حتّى يؤمّنوا لأنفسهم الحدّ الأدنى من الدّخل. بعد تلقيهم وعودًا بتحقيق أرباح مضمونة واستقلال مهني، يجدون أنفسهم تحت ضغط يبقيهم أسرى لعدم الاستقرار ويعرّضهم لمخاطر كبيرة. فمهنتهم لا تعترف بالتأخير ولا الراحة؛ ومن مصلحتهم، إذا ما أرادوا ضمان الحد الأدنى الضروري لحياة كريمة، تحدّي جميع المخاطر لتقديم أكبر عدد ممكن من الطلبات. وسواء أكان الجوّ ماطرا أو عاصفا أو في حرارة لا تحتمل، فإنّ قدر أعوان التوصيل التجوال في الطرقات دون أيّ حماية.
هم يعملون ليومهم دون معرفة ما يخبّأه اليوم الموالي؛ فإذا حدث لهم مكروه في الطريق، فستتخلّى عنهم المنصّة التي توظفهم، وسيكون عليهم دفع تكاليف علاجهم. إنّهم يقدّمون وجبات وملابس وأدوية وإلكترونيات وأدوات مختلفة، وأثاث وأغراض فاخرة لن يتمكنوا أبدًا من شراء مثلها لأنفسهم. تلك تفاصيل للحياة تذكّرنا بمرارة الظلم الاجتماعي الذي يتنامى في عالم أعمته التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، ويجعلنا نفقد الذكاء العاطفي.
في غياب للحقوق القانونية، يتعرّض موظفو التّوصيل لأصناف من سوء المعاملة من قبل حرفائهم؛ فمطاعم تجعلهم ينتظرون لساعات وتمنعهم من استعمال المرافق الصحّيّة، كما شهد بذلك عامل توصيل في القاهرة. ففي تدوينة طويلة ومؤثرة نُشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، روى عامل التوصيل أوجه عديدة من إساءة المعاملة له ولزملائه من فبل مديري المطاعم التي يجلبون منها الطلبات؛ فبينما يفرض عليهم البعض الوقوف خارجا في انتظار تسلّم الطلب، يمنعهم آخرون من شحن الهاتف أثناء انتظار إعداد الطلب، رغم علمهم بأنّه أداة رئيسية في أداء عملهم وإذا لم يكن المطعم ، فإنّ الزبون هو من يسيء استقبال موظف التوصيل؛ فقد فَقَدَ أحد عمّال التوصيل بالمغرب، وعمره يزيد عن 60 عامًا، وظيفته لأنّ أحد العملاء أراد إجباره على صعود سبعة طوابق ليتبقّى طلبه.
في مقابلة مع إذاعة مونت كارلو الدولية، ذكر محمد مصمولي، المتحدث باسم الرابطة التونسية لعمال خدمات التوصيل، أنه بالإضافة إلى كل هذه الإساءات، يتعرّض عمّال التوصيل يوميًا لخطر سرقة دراجاتهم النارية أو دراجاتهم الهوائية بالإضافة إلى التعرض لحوادث الطرقات. «يوجد في تونس حوالي 600 ألف شخص يعملون في هذا القطاع، وجميعهم يتعرّضون للاستغلال والحرمان من جميع حقوقهم ولا يستفيدون من أيّ قانون يحميهم نظرا لأنّه لم يتمّ وضع أيّ إطار تشريعي لهم« .
في عام 2015، تعرّضت الأردن لعاصفة ثلجيّة كبيرة، ودعت المديرية العامة للأمن العام المواطنين إلى عدم مغادرة منازلهم. أمّا الشاب محمد أبو خضير (23 عامًا) فكان مجبرا على مواصلة العمل وخرج لتسليم طلبية. لكنه لم يصل أبدا إلى وجهته لأنه مات في حادث طريق … وإذا كانت هذه القضية قد أثارت قدرا كبيرا من المشاعر في الرّأي العام في ذلك الوقت، فأنّه لم تتبعها أيّ تدابير ملموسة.
التنظيم النقابي والضمان الاجتماعي: أين نحن من هذه الحقوق الأساسية؟
في عام 2022، كشفت عدّة دراسات وتقارير أنّ خمسا من أكبر عشر شركات عالمية هي منصات، وهي آبل، ومايكروسوفت، وآلفابيت (غوغل)، وأمازون، وميتا (فايسبوك)، وتصل قيمتها السوقية إلى ما يقارب 6500 مليار دولار أمريكي. تشير هذه الملاحظة إلى أن التزايد لا يخصّ عدد المنصات فحسب، بل وفي قيمتها السوقية أيضا. تشهد المنصات عبر الإنترنات نموّا سريعا، ولها تأثير متزايد بشكل كبير على تنظيم وظروف العمل. غير أنّ عدم وجود تعريفات ملزمة قانونًا لأنشطة المنصات والخدمات المقدّمة تفضي إلى مزيد تجزؤ سوق العمل.
في عديد البلدان من المنطقة العربية، يُعتبر عمّال التوصيل عبر المنصّات الرقمية بالفعل عاملين لحسابهم الخاصّ لا كموظفين، ممّا يعني أنّهم لا يتمتعون بنفس الحقوق والحمايات التي يتمتع بها العمّال بأجر، كالحق في الحدّ الأدنى للأجور، والحماية الاجتماعية والمفاوضة الجماعية. وهذا يسمح للمنصات بتقليل تكاليفها ومسؤوليتها الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يواجه عمال التوصيل عبر المنصات ظروف عمل محفوفة بالمخاطر، وجداول عمل العمل
في أوقات لا يمكن التنبؤ بها، وأجور هزيلة ومخاطر تتعلق بالسلامة. يعمل العديد منهم لساعات طويلة لكسب ما يكفي من المال لإعالة أنفسهم وأسرهم.
وإن كانت بعض البلدان قد شرعت في اتخاذ تدابير لتحسين وضع أعوان التوصيل على المنصات الرقمية. فعلى سبيل المثال، صدر في مصر عام 2020 قانون لتنظيم العاملين لحسابهم الخاص، بما في ذلك عمال التوصيل على المنصات، ومُنحوا بعض الحقوق مثل الحق في التأمين الصحي ومعاش التقاعد. بيد أنّ التنفيذ الفعلي لهذه القوانين لا يزال يمثل تحدّيًا في كثير من بلدان المنطقة.
في تونس، بدأ عمّال التّوصيل في التنظّم لإنشاء نقابة تتولّى تمثيلهم وإيصال صوتهم إلى السلطات من أجل دفعها إلى التحرّك لوضع إطار قانوني خاص بهذه المهنة. وفي هذا الإطار يؤكد محمد مصمولي أنّ المنصات تساهم بشكل فعّال في تقليل معدلات البطالة بين الشباب على وجه الخصوص، ولكنها لا تقدم أي ضمانات لأعوان التّوصيل الذين يتقاضون عن كلّ عمليّة توصيل 2.200 دينار (0.76 دولار).
واتخذت البحرين مؤخرًا تدابير لتحسين ظروف عمل أعوان التوصيل. ففي يناير 2021، أعلنت الحكومة البحرينية عن تبني جملة من الإجراءات لحماية حقوق العاملين لحسابهم الخاص، بما في ذلك أعوان التوصيل. وتشمل هذه التدابير التزام الشركات بتوفير التأمين الصحي للعاملين لحسابهم الخاص، بالإضافة إلى أحكام تتعلّق بالإجازة مدفوعة الأجر وساعات العمل الإضافي. كما يحقّ للعاملين لحسابهم الخاصّ تكوين نقابات لحماية حقوقهم.
أمّا الحكومة المغربية، فرغم أنّها لم تعتمد بعد تدابير محددة لصالح عمال التوصيل، إلاّ أنّها اتخذت تدابير عامّة لحماية حقوق العاملين لحسابهم الخاص من خلال القانون 103-13 الخاص بالعاملين لحسابهم الخاص، والذي يهدف إلى حماية حقوق هؤلاء العمال. من خلال توفير الحماية الاجتماعية والتغطية الطبية لهم. كما يلزم القانون الشركات بتقديم عقود عمل للعاملين لحسابهم الخاص، مما يضمن لهم حقوقًا مثل العطلة السنوية وأجر العمل الإضافي.
لكن هذه التدابير لا تزال غير كافية في مواجهة واقع أعوان التوصيل والذين يعرضون حياتهم للخطر حتى يتمكنوا من تلبية احتياجات أسرهم. يجب على الحكومات العربية أن تعمل بتعمّق على هذه الموضوع من أجل تحسين الحياة
اليومية لآلاف الأشخاص الذين يعملون في هذا القطاع، لا سيما أنّ العمال المهاجرين والنساء يشكلون جزءا مهمّا من القوى العاملة في المنصات، وأن “مجال المنصات” موجودة في قطاعات مثل خدمات الرّعاية وأعمال التنظيف والعمل المنزلي. تتمثل الخطوة الأولى الضرورية في الاعتراف بأن عمل المنصة يرتبط ارتباطًا مباشرًا بعدم المساواة العرقية والجنسانية في أسواق العمل
هذا ضروري ليس فقط لوضع سياسات تكفل ظروف عمل عادلة لجميع العمال، بغض النظر عن أصلهم وعرقهم ونوع جنسهم، إنّما كذلك لضمان تمثيل جماعي عادل من خلال الاعتراف بأصوات العاملين من مختلف الفئات والأوساط. ولنقابات العمال، على وجه الخصوص، دور مركزي تؤديه في تعزيز هذا الحوار الاجتماعي.