نشرت منظمة العمل الدولية، في عام 2019، تقريرًا يكشف أنّ 2.78 مليون شخص يموتون سنويا بسبب عملهم، في حين أنّ أكثر من 374 مليون شخصا يتعرّضون لإصابات نتيجة حوادث مرتبطة بالعمل. وتقدَّر قيمة أيّام العمل المفقودة لأسباب متعلّقة بالصّحة والسّلامة المهنيّة بحوالي 4% من النّاتج المحلّي الإجمالي العالمي، وفي بعض البلدان يمكن أن يصل هذا الرّقم إلى 6% من معدّل النّاتج المحلّي الإجمالي العالمي. ووفقا لمكتب العمل الدّولي، فإنّه بالإمكان، عن طريق اتباع أفضل الممارسات والاستراتيجيات في مجال الوقاية من الحوادث -الموجودة بالفعل، والتي يسهل الوصول إليها- تجنّب ما يصل إلى 80% من الحوادث والوفيّات المرتبطة بالعمل. إلاّ أنّ ذلك، يتطلّب تبنّي جميع الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية لهذه الممارسات.
معايير السلامة والصحة المهنية
وضعت الهيئات المكونة لمنظمة العمل الدولية، على غرار الحكومات وأرباب العمل والعمّال، صكوكا قانونية تُعرف باسم معايير العمل الدولية لتحديد المبادئ والحقوق في العمل. ويمكن أن تكون هذه المعايير في شكل توصيات أو معاهدات دولية ملزِمة قانونيّا يمكن للدّول الأعضاء التصديق عليها، أو في شكل توصيات غير ملزمة تكون بمثابة مبادئ توجيهية. وتعدّ معايير السلامة والصحة في العمل من بين الأدوات الأساسية التي توفّرها منظمة العمل الدولية للحكومات وأصحاب العمل والعاملين لتدعيم الممارسات الوقائية والتقارير وعمليات التفتيش لضمان حدّ أقصى من السلامة في مكان العمل. وقد اعتمدت منظمة العمل الدولية أكثر من 40 معيارًا يتناول السلامة والصحة في العمل، ويتعلق ما يقرب من نصف صكوك منظمة العمل الدولية بشكل مباشر أو غير مباشر بمسائل السلامة والصحة في الوسط المهني.
وفي حين ينصّ دستور منظمة العمل الدولية على أنه «يجب حماية العاملين من الأمراض بشكل عام أو من الأمراض المهنيّة والإصابات المنجرّة عن عملهم»، فإنّ أحدث التقديرات العالميّة المتوفّرة لدى منظمة العمل الدولية تفيد أنّ 2.78 مليون حالة وفاة لأسباب مهنيّة، منها 2.4 مليون حالة وفاة ناتجة عن أمراض مهنية تسجّل كل سنة. وهو ما يكشف الفجوة بين الترسانة القانونية التي وضعتها المنظمة وواقع ملايين العاملين حول العالم. إن التأثيرات الاقتصادية لهذه الحوادث كبيرة جدّا على الشركات والدول والاقتصاد العالمي، ناهيك عن أصناف المعاناة والأضرار التي تلحق بالعاملين وأسرهم وتشمل الكلفة، التعويضات، وأيام العمل الضائعة، وانقطاع الإنتاج، والتدريب وإعادة التأهيل، فضلاً عن النفقات الصحية التي تمثل حوالي 3.94% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب العمل الذين يتحمّلون انعكاسات جسيمة، كالخروج على التقاعد المبكر بكلفته الثقيلة، وخسارة عاملين ذوي خبرة، وفترات غياب عن العمل، وتعويضات تأمين مرتفعة. وإنّما بالإمكان تجنّب هذه المعضلات باعتماد أساليب في الوقاية والإبلاغ والتفتيش تتميّز بالعقلانية. لهذا كانت معايير منظمة العمل الدولية للسلامة والصحة في العمل، موارد أساسية للحكومات وأصحاب العمل والعاملين لتطوير مثل هذه الأساليب وضمان أقصى قدر من السلامة في العمل.
وبالإضافة إلى مدونات قواعد الممارسات التي وضعتها منظمة العمل الدولية، التي تحدّد المبادئ التوجيهية لفائدة السلطات العامة وأصحاب العمل والعمال والمؤسسات والهيئات المسؤولة عن حماية السلامة والصحة في العمل، يوجد في الجملة ثلاث عشرة اتفاقية دولية تتناول هذه المسألة، وهي كالتالي:
•الاتفاقية (رقم187) بشأن الإطار التّرويجي للسّلامة والصّحة في العمل، 2006.
• الاتفاقية (رقم 155) بشأن السّلامة والصّحة المهنيتين وبيئة العمل، 1981، وبروتوكولها لعام 2002.
• الاتفاقية (رقم 161) بشأن خدمات الصحة المهنية، 1985.
• اتفاقية (رقم 120) بشأن القواعد الصحية في التجارة والمكاتب، 1964.
• الاتفاقية (رقم 152) بشأن السلامة والصحة المهنيتين في عمليات المناولة بالموانئ، 1979.
• الاتفاقية (رقم 167) بشأن السلامة والصحة في البناء، 1988.
• الاتفاقية (رقم 176) بشأن السلامة والصحة في المناجم، 1995.
• الاتفاقية (رقم 184) بشأن السلامة والصحة في الزراعة، 2001.
• الاتفاقية (رقم 115) بشأن الحماية من الإشعاعات، 1960.
• الاتفاقية (رقم 139) بشان السرطان المهني، 1974.
• الاتفاقية (رقم 148) بشأن حماية العمال من المخاطر المهنية الناجمة عن تلوث الهواء والضوضاء والاهتزازات في بيئة العمل، 1977.
• الاتفاقية (رقم 162) بشان السلامة في استخدام الحرير الصخري، 1986.
• الاتفاقية (رقم 170) بشأن السلامة في استعمال المواد الكيميائية في العمل، 1990.
ماذا عن الوضع في المنطقة العربية ؟
تشير إحصائيات حديثة إلى وقوع أكثر من 70 ألف حادث عمل سنويًا في دول المنطقة العربية. حوالي 200 ألف حادث، تقع كل عام، تنتج عنها إعاقات مزمنة، بينما يموت قرابة 60 عاملاً في المنطقة في مواقع العمل. ووفقا للعديد من المراقبين، فإنّ هذه الأرقام لا تعكس حقيقة الوضع، نظرا إلى أنّ كثيرا من حوادث العمل لا يتمّ الإبلاغ عنها لدى الجهات المعنيّة على النحو الذي جدّت فيه فعليّا.
ولا يبدو أنّ هذه الظاهرة المثيرة للقلق في المنطقة في طريقها إلى التّراجع لسبب وجيه؛ أنّه على إثر التّداعيات الاقتصاديّة للأزمة الصحيّة، تراجع حجم استثمارات أصحاب العمل في صيانة المباني، وفي التكوين المستمر للموظفين، وخصوصا في شراء أدوات السّلامة. كما تلاقي الحكومات أيضا صعوبة في توفير الموارد الكافية لهيئات الرقابة والتفتيش حتى تتمكّن من تنفيذ المهام الموكلة إليها على الوجه الصحيح.
ونجد هذا الوضع الذي يفاقمه إطار تشريعي يشوبه قصور، يُعرِّضُ العاملين العرب يوما بعد يوم لمخاطر مميتة. فبالإضافة إلى الأخطار التي تتهدّدهم أثناء ممارسة عملهم، هم يتعرّضون أيضًا لمخاطر أخرى لا سيما حوادث الطرقات نظرًا لأنّ العمال في المنطقة العربية بشكل عام يضطرّون لقطع مسافات طويلة للوصول إلى أماكن عملهم.
وفي هذا الإطار، أوضح شاهر سعد رئيس الاتحاد العربي للنقابات أنّه لم يعد «من المقبول» التعامل مع قضية السلامة والصحة في العمل بهذا القدر من «السطحية». وأضاف قائلا: «إنّ الأمر يتعلّق بحق أساسي للعمّال، ممّا يعني أنّه على جميع الأطراف المعنية – وزارات العمل ووزارات الصّحة وأصحاب العمل وممثلي العمّال – أن يراجعوا النصوص المتعلّقة بالسّلامة والصحة في العمل في إطار حوار اجتماعي، من أجل وضع سياسات ثابتة الجذور، ومقننة ومرتكزة على ما ورد في الاتفاقيات الدولية رقم 155 و161 و187«.
إنّ هذه المؤشرات المثيرة للقلق تعود بشكل رئيسي إلى ثغرات تشريعية في هذا المجال تشكو منها كامل المنطقة العربية تقريبا. وفي هذا الإطار ذكرت السيدة هند بن عمار، السكرتيرة التنفيذية للاتحاد العربي للنقابات، أنّه بالرّغم من أنّ السلامة والصحة في العمل تمثّل «نقطة التقاء وتوافق بين جميع الشركاء الاجتماعيين»، إلاّ أنه لم يتجسّد شيء على أرض الواقع في هذا المجال. وأضافت موضحة أنّه: «يجب ترجمة هذا التوافق في قوانين وسياسات وطنية تجعل من السلامة والصحة في العمل ركيزتين للتعليم والتدريب المهني. ومن الضروري أيضًا إعادة إطلاق وتعزيز هيئات تفتيش العمل وتمويل برامج السلامة والصحة المهنية بشكل كافٍ«.
إلى جانب ذلك، وفيما يتعلّق بتصديق الدّول العربيّة على الاتفاقيات الدّولية المتعلقة بهذا الموضوع، أشارت السكرتيرة التنفيذية للاتحاد العربي للنقابات إلى أنّ «البحرين والجزائر فقط صدّقتا على الاتفاقية رقم 155، بينما صدّقت العراق والمغرب وتونس على الاتفاقية رقم 187. ولم تصدّق أيّ دولة عربية على الاتفاقية رقم 161، وهو أمر يثير تساؤلا حول جدية الحكومات في التعامل مع هذا الحق. ونحن كنقابات، نبذل قصارى جهدنا أثناء المفاوضات التي نجريها، لضمان تطبيق جميع معايير السلامة في أماكن العمل. ولن ندخر أيّ جهد من أجل أن تصادق جميع الدّول العربية على هذه الاتفاقيات وترجمتها إلى سياسات وطنية من شأنها أن تنعكس إيجابيّا على تنمية الإنتاج وسلم المناخ الاجتماعي«.