القمع في زمن التضخم: كيف يستعصي على السلطات المصرية إخماد نفس الاحتجاج

السوق المركزية بالقاهرة، مارس 2022 . عمرو نبيل/ وكالات الأنباء

 

وفقا للبيانات الصّادرة عن الجهاز المركزي للتّعبئة والإحصاء، فقد بلغ التّضخّم السّنوي في مصر خلال الشهر الماضي نسبة 26.5%، مقابل 21.9% في ديسمبر/كانون الأول 2022. وكان هذا الرقم 8% فقط في يناير/كانون الثاني 2022، قبل أن يسجّل ارتفاعا هائلا في الشهر الموالي بعد اندلاع الحرب الرّوسيّة الأوكرانية. وقد واصلت أسعار السلع الأساسية في مصر ارتفاعها في يناير، بمتوسط زيادة 6.6% في أسعار الخبز والحبوب، و20.6% بالنسبة للحوم والدّواجن.

وقد أعلن البنك المركزي المصري في يناير الماضي عن ارتفاع معدل التضخم الأساسي السنوي إلى 31.2%; وهو رقم أقلّ بكثير ممّا سجلته مختلف وكالات التصنيف الدولية التي تحدّد هذا المعدل بحوالي 101%، ممّا يضع مصر في المرتبة السادسة على مستوى العالم، من بين أسوأ 21 دولة في العالم من حيث المعدلات الحقيقية المرتفعة للتضخّم.

ويلقي هذا التضخم غير المسبوق، المصحوب بتخفيض تاريخي لقيمة الجنيه المصري، بضلاله يوما بعد يوم على المناخ الاجتماعي في بلد يشهد تصاعدا كبيرا للتحرّكات الاحتجاجيّة، سواء في القطاع العام أو الخاص.

أجور تهوي وتلاشي للقدرة الشرائية

وصل تخفيض قيمة العملة الوطنيّة المصريّة مقابل الدّولار إلى أدنى مستوى له منذ 2016، ما أدّى إلى تفاقم الوضع الاقتصادي صعوبة على ما هي عليه بالفعل، في بلد يعاني من تضخّم جامح وتراجع مثير للقلق في احتياطيات العملة الصعبة.

وكانت الحكومة المصرية تلقت في ديسمبر 2022، دعما ماليّا من صندوق النّقد الدولي، ومقابله تمّ تنفيذ إصلاحات اقتصاديّة جوهريّة.

ومثلما حدث خلال التخفيض الهائل من قيمة العملة في عام 2016 ، والذي تمّ بدوره في مقابل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، فإنّ الطبقات الوسطى والناس الأكثر فقرا هم الذين يتأثرون من التبعات في المقام الأول. وفي ذلك الوقت، وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي برنامج الإصلاح الاقتصادي بأنّه “الأصعب في مصر” وحثّ “ربّات البيوت على تقديم التضحيات” للحفاظ على الموارد المالية للبلاد.

ووفقًا للبنك الدولي، وضعت الظروف الاقتصاديّة الجديدة قرابة 60% من بين 104 مليون مصري تحت خط الفقر أو فوقه بقليل. وأصبح متوسط الدّخل الجديد في القطاع الخاص -الذي يعتبر أفضل من نظيره في القطاع العمومي- الآن 2700 جنيه مصري ، أي ما يساوي 87 دولارا. وبذلك فإنّ الأشخاص الذين كانوا مصنّفين فوق خط الفقر، أصبحوا الآن أقرب ما يكونون إليه، نظرا لأنّ متوسّط الأجر السنوي الرّسمي هو 2150 يورو (72992 جنيه مصري)، بيد أنّ الأشخاص المعنيّين بهذا الوضع ليسوا مخوّلين للحصول على المساعدات الحكومية، مما يزيد حياتهم اليومية تعقيدا.

هذا الوضع كانت له تداعيات محسوسة بالخصوص على الخرّجين أصحاب الشهادات الذين عليهم التطلّع إلى ما وراء الحدود للعثور على عمل. لينضاف أولئك الذين يتمكّنون من ذلك، إلى أعداد المصريين المقيمين بالخارج الذين يرسلون إلى عائلاتهم ما يقرب من 30 مليار يورو كل عام.

عمّال منهكون وثائرون 

شعارات ردّدها عمّال مؤسّسة كريازي خلال مظاهرتهم في فبراير الماضي

منذ بداية هذا العام، تتالى الإضرابات والاعتصامات التي ينفّذها العاملون المصريّون من أجل مطالب يعتبرونها “شرعيّة”، تتمثّل في زيادات منتظمة في الأجور، مرتبطة بمؤشّر التّضخّم، ومكفآت وبدلات جديدة وكذلك مساعدات اجتماعية. 

وفي الآونة الأخيرة، نظّم عمّال مؤسسة كريازي المتخصّصة في صناعة الأجهزة الكهربائية المنزلية، مظاهرة كبيرة للتنديد بموقف إدارتهم التي رفضت أيّ تفاوض حول مطالب تتعلّق بزيادة منتظمة للأجور. وذكر المتظاهرون في تصريحات إعلامية أنّه لم يقع مراجعة رواتبهم بالزيادة منذ سنين وأنّها لم تعد كافية لمجابهة التضخم العام. كما أفادوا بأنّ المؤسّسة شرعت في إلغاء البدلات وجميع الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها من قبل.

هذا الإضراب الضخم، أعقبته عدّة تحرّكات أخرى نظّمها عمّال القطاع الصناعي الذين تدّعي مؤسّساتهم باستمرار أنّها غير قادرة على إقرار زيادات في الأجور بسبب المشاكل الاقتصادية الناجمة عن القيود المفروضة على الاستيراد ونقص العملة الأجنبية والتراجع في الأرباح.

وفي غياب التوصّل إلى نتيجة، تتوالى دعوات النّقابات للإضراب التي تواجَه بتدخّلات قمعية متكرّرة من قبل قوّات الشرطة، ورغم ذلك تظلّ بلا جدوى. وبالرّغم ممّا تظهره السّلطات بالفعل من شراسة متزايدة في قمع الحريات النقابية وخنق التحركات الاجتماعية، فإنّ ذلك لا يبدو أنّه يؤثر على إرادة العمّال المصريين في الدفاع عن مطالبهم.

وهكذا، فمنذ بداية عام 2023، شهدت مصر إضرابات هامّة كانت لها تداعيات كبرى على سير البلاد:

• إضراب عمال شركة كريازى بمحافظة القاهرة.

• إضراب عمال شركة “ماك” فرع من شركة “النساجون الشرقيون للسجاد” بمحافظة الشرقية.

• إضراب عمال شركة “ليوني وايرنغ سيستمز” المتخصّصة في إنتاج الأسلاك الكهربائية للسيارات بالقاهرة.

• اعتصام عمال شركة النصر للمسبوكات الذي تمّ تفريقه من قبل قوات الأمن.

• إضراب عمال شركة الوبريّات سمنّود بمحافظة الغربية.

• اعتصام عمال مصنع أسمنت قنا بصعيد مصر.

• إضراب سائقي التاكسي ببورسعيد.

• إضراب أعوان الأمن على مستشفى بلطيم بمحافظة كفر الشيخ.

• إضراب عمال الشركة المصرية لإنتاج الستيرين بالإسكندرية.

وكانت المطالب بالنسبة لجميعهم واحدة، وجميعهم ندّدوا بنفس الممارسات: من غياب المفاوضات الجماعية، والفصل التعسفي، وإلغاء الامتيازات الاجتماعية ، وتدهور ظروف العمل والتضييق على العمل النقابي.

معالجة بوليسية قمعيّة 

اعتصام نظمه عمال أحد المصانع بالقاهرة ، يناير 2023

وفقا لعديد الملاحظين، نتج عن تزايد الإضرابات، الذي هو مؤشر لحجم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة التي تمرّ بها البلاد، انخفاض بنسبة تفوق 30% في إنتاج المصانع المصريّة.

وإن كان أغلب العاملين يقدّمون مطالب ذات طابع مالي، إلّا أنّ آخرين يشجبون بشكل متزايد الإجراءات القمعيّة التي تواجه بها السلطات كلّ تحرّك ذا طابع اجتماعي؛ سواء أكان ذلك على مستوى قانون العمل، الذي يقيد حقّ بعض الفئات في الانضمام إلى نقابة، أو على مستوى المعالجة الأمنية التي تفرط في استعمال العنف في غالب الأحيان، ورغم ذلك فقد أصبح صوت المضربين يُسمع أكثر فأكثر.

وأمام تفشّي هذه التحرّكات، قامت السّلطات المصرية باعتقال ومحاكمة عدد من القيادات النقابية في محاولة لإخماد حماستهم. بعض هؤلاء القادة معروفون بمعارضتهم لسياسات الخصخصة وتهميش دور النّقابات العمالية المستقلة.

وهكذا تمّ قمع الاحتجاجات السلمية من قبل الحكومة التي تسعى بكلّ الوسائل للحدّ من التبعات الاجتماعية للأزمة الاقتصادية. ولكن في هذا السياق من الركود التضخمي، بائت هذه المحاولات بالفشل بل تتالى التّحركات وتتضاعف في كلّ أرجاء البلاد. ويقدّر المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام “تكامل مصر” وقوع 213 إضرابا في الفترة من يناير 2021 إلى يناير 2023. إلاّ أنّ وسائل الاعلام لا تتولّى دائما تغطية هذه الإضرابات، بسبب الرّقابة المفروضة من قبل السلطة.

ومن جهة أخرى تخضع الشركات من جانبها، سواء أكانت عامّة أم خاصّة، أيضًا للخيارات السياسية للحكومة. إذ تتلقّى تعليمات باخماد أيّ احتجاج حتى قبل أن يبدأ، تجد العديد من الشركات نفسها ملزمة بإيجاد حلول حتّى لا تصبح مستهدفة من قبل السّلطات؛ وأمام محدودية مجال التصرّف، تحاول بصعوبة، التّفاهم مع الموظفين لتجنب أيّ احتجاج، مع عدم الاستجابة لطلبات الأجراء.

ونظرا لاستمرار تأثيرات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد العالمي، يبدو أنّ مصر تواصل سقوطها المدوّي نحو المجهول بينما يوظّف النّظام القائم جميع الوسائل لقمع صوت كلّ من يجرؤ على رفعه للدفاع عن حقوقه.