
في خضمّ الصراع المدمّر الدّائر في اليمن، يتكشّف وضع مأساوي يحدث في صمت: إنّه وضع عمّال المياومة. هؤلاء الرجال والنّساء الشجعان الذين يكافحون كلّ يوم لإعالة أسرهم في بلد مزّقه العنف والبؤس. بدون عمل منتظم ولا أمان، ينخرطون في بحث مستمرّ عن الشغل لكسب دخل ضئيل، على أمل تهدئة الجوع الذي تتلوّى منه بطون ذويهم، في ظلّ واقع محفوف بعدم يقين دائم.
لا يتوقف عمّال المياومة في اليمن عن الكفاح يوميّا على أمل العثور على عمل في أكثر قطاعات الاقتصاد هشاشة، في مواقع البناءات المتداعية، أو في المزارع القاحلة، أو في الشوارع الصاخبة للمدن المهدّمة، ويتحدّون الأخطار والمشاق دون كلل في كفاحهم من أجل البقاء. أمّا الأجور الهزيلة التي يحصلون عليها فهي غالبا لا تكفي لتلبية أبسط الاحتياجات، ولا تسمح لهم بالحصول على ما يكفي من الطعام أو تأمين العلاج لأنفسهم أو تمكين أطفالهم
من التعليم. إنّهم يواجهون كلّ يوم خيارات مؤلمة، مضحّين باحتياجاتهم الخاصّة لتأمين مستقبل أفضل نوعا ما لأسرهم.
في شوارع اليمن المضطربة، يواصل عمال المياومة النّضال، على أمل تحقيق مستقبل أكثر إشراقًا لبلدهم وعائلاتهم. قصّتهم هي شهادة مؤثرة عن صمود قوّة الإرادة في وجه الشدائد والعنف.
يلتقي أحمد كلّ يوم بالعشرات من عمّال “الأجر اليومي” الآخرين. يتجمّعون على رصيف في وسط مدينة عدن، يرقبون المارّة ممّن يبحثون عن عمّال لاستخدامهم. مستعدّون بأدواتهم التي يحملونها، لتحمّل كلّ الأخطار في أيّ عمل كان وإن ليوم واحد أو أقلّ، في السباكة، أو البناء، أو الحفر …، يذكر أحمد، البالغ 35 عامًا، أنّه يخرج كلّ صباح بحثًا عن فرصة عمل يوميّة، وغالبا بلا جدوى.
ويوضح العامل أنّ نشاط المقاولين وشركات البناء في عدن لم يشهد أيّ انقطاع تامّ، إلاّ في ظروف قصوى ولفترات قصيرة جدًا، على الأقلّ، حتى وقت قريب. حيث سمح تدفّق اليمنيين المهاجرين في الخليج الذين جاءوا للاستثمار وإقامة المشاريع وبناء منازلهم الخاصّة، بالحفاظ على الأنشطة الاقتصادية في المدينة. غير أنّ الوضع قد تغيّر منذ العام الماضي بل إنّه ساء أكثر هذا العام. وفي هذا الإطار تشير تقارير حكومية إلى وصول نسبة البطالة في البلاد إلى 60%.
ولا تتوقف معاناة عمّال المياومة عند ندرة إيجاد شغل، بل تتعدّاها إلى تعرّضهم للأخطار وظروف عمل غير إنسانية. وفي ظل غياب الحماية الاجتماعيّة وتدابير السّلامة، يخاطرون رغم ذلك بحياتهم من أجل عمل غير مستقرّ ومؤقّت. فتتوالى الحوادث والإصابات، وغالبًا ما يتمّ تجاهلها في انتهاك للحقوق الأساسية لهؤلاء العاملين.
وأوضح الخبير الاقتصادي وحيد الفودعي، في تصريح إلى وكالة رويترز، أنّه بالإضافة إلى نقص فرص العمل، يواجه عمال المياومة التضخّم المتسارع وانخفاض قيمة العملة المحلية، مضيفا أنّ الرّكود الاقتصادي في البلاد أثّر بشدّة على هؤلاء العمّال، حيث نتج عنه انخفاض
حادّ في فرص العمل، حتى باتوا في عجز تام عن تلبية احتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء وسكن. وقد أدّى هذا الوضع إلى زيادة البطالة وانتشار الفقر وتراجع خطير في آفاق العمل.
وذكر علي أحمد بلخدر رئيس الإتحاد العام لنقابات عمّال اليمن، أنّه بسبب انهيار العملة الوطنيّة وهشاشة سوق العمل في اليمن تتزايد أعداد العاملين الذين يلجؤون اضطرارا إلى شغل وظائف يوميّة. بل إنّ العاملين في وظائف مستقرّة نسبيّا، هم بدورهم، كثيرا ما يشهدون انقطاع رواتبهم، ويخلّف ذلك ظروفا اجتماعيّة في غاية الهشاشة، وفقا لما بيّنه المسؤول النّقابي اليمني.
التعقيد البيروقراطي يفاقم صعوبة الحياة اليوميّة للعمّال
بحسب محمد مصطفى ياسين، المهندس المعماري والمقاول في عدن، يرجع الانكماش الاقتصادي إلى حدّ كبير إلى إيقاف البناء على أراض غير مرخّصة وإلى غياب التّدابير لمعالجة هذه المشكلة. وأوضح أنّ تشييد مبانٍ بطابق واحد أو متعدّدة الطوابق على أرض غير مرخصّة أصبح ممنوعًا منعا باتّا، في حين أنّ تكاليف الحصول على تصاريح البناء على الأراضي العمومية باهظة للغاية.
في نهاية عام 2021، أصدر محافظ عدن، أحمد حامد لملس، قرارًا ببعث وحدة مكلفة بحلّ المشاكل العقاريّة والبناءات غير القانونية. تتمثل مهمة هذه الوحدة في إيقاف كلّ عمل ينجز على أساس مخططات غير مصدّقة من هيئة الأراضي وعقارات الدولة والتخطيط العمراني. ولديها بالإضافة إلى ذلك تفويض بمنع أيّ بناء يتمّ تنفيذه بدون ترخيص. تهدف هذه المبادرة إلى الحفاظ على سلامة الأراضي وتعزيز معايير البناء في منطقة عدن….
ومع ذلك، يلاحظ العمّال والمواطنون أنّ هذه الوحدة، على الرّغم من هدفها الأساسي المتمثل في إدارة وتنظيم قطاع البناء في المنطقة، لم تزد إلاّ من مفاقمة الصّعوبات التي يواجهها عمّال المياومة والمواطنون عموما، وأصبحت هذه الإجراءات، عبئا ماليّا إضافيّا على
السّكان، يمنعهم من الاستمرار في مشاريعهم الإنشائيّة المختلفة، بدلاً من تسهيل عمليّات البناء.
وفي هذا الصدّد يفسّر مسؤول كبير في وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل في عدن، تراجع الأعمال الحرّة وتوقف العديد من المشاريع الخدميّة والتنمويّة الحكوميّة إلى تعليق تمويل هذه المشاريع من قبل البنك الدّولي وعدّة دول مانحة.
وأضاف المسؤول ملاحظا أنّ هذا الوضع كان له أثر كبير على الاقتصاد المحلّي وأدّى إلى ندرة فرص العمل وتدهور المستوى المعيشي للسكان.
وفي هذا الإطار تفيد آخر تقديرات صندوق النقد الدولي، أنّ ما يقرب من 17 مليون يمني يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحادّ. بينما تمكّنت الأمم المتحدة من جمع 1.2 مليار دولار فحسب من أصل 4.3 مليار دولار اللازمة للاستجابة لهذه الأزمة الإنسانية.
وقد تفاقم هذا الوضع المقلق بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية المستمر الذي وصل إلى 45% في عام 2022، وكانت عواقب هذه الأزمة مدمرة للشعب اليمني، الذي يكافح لتلبية احتياجاته الأساسية..