
تظاهر العشرات من الصيادين الصناعيين يوم 21 يونيو/حزيران في العاصمة الاقتصادية نواذيبو، للمطالبة بعودة المفاوضات بشأن الاتفاق الجماعي المتوقّف منذ شهر يونيو 2022. وأعلن النّقابي الشيخ ماء العينين ولد الحسن في هذا الإطار أنّ المحتجّين كانوا قد خاطبوا وزارة الإشراف عدّة مرات حول هذا الموضوع، ولكن دون جدوى. فمنذ أكثر من ثلاثة أشهر، لم يتقاضى البحارة المحتجّون رواتبهم من قبل الشركات التي توظّفهم، بينما يواصل مسؤولو الوزارة تجاهل طلباتهم. أوضح الشيخ ماء العينين ولد الحسن أنّه علاوة عن الأجور غير المدفوعة، فإنّ المحتجين يطالبون بتحسين ظروف عملهم بشكل عام، ويدخل في ذلك زيادة الأجور، ومراجعة شروط الحماية والسّلامة، وتوفير نظام تغطية اجتماعية وطبية لتأمينهم في حالة المرض أو حوادث العمل.
وليست هذه المرة الأولى التي يحتجّ فيها البحارة الموريتانيون: إذ غالبًا، يتجاهل أصحاب السفن وأرباب العمل التزاماتهم تجاه هؤلاء العمال، برفض منحهم عقود عمل رسميّة واحترام المعايير الدّولية فيما يتعلّق بشروط العمل اللائق وقواعد الصحة والسلامة المهنية. هذا الافتقار للحماية القانونية يعرّض البحارة للاستغلال وسوء المعاملة والممارسات غير العادلة.
لامساواة ومعاناة عميقة يتمّ تجاهلها
الفصل التّعسفي هو حقيقة مفجعة بالنسبة لكثير من البحارة الموريتانيين. إذ يمكن أن يتمّ إيقافهم عن العمل دون سابق إنذار أو سبب مقبول. هذا التهديد المستمرّ مصدرٌ للخوف وعدم اليقين لدى البحارة، ويجعلهم عرضة لمزيد الانتهاكات والصّعوبات الاقتصاديّة. وغالبًا ما يضطرون للقبول بظروف عمل جائرة لإعالة أنفسهم وأسرهم.
في عام 2021، وجد جمع من البحارة الذين يعملون في مدينة نواذيبو أنفسهم، بين عشية وضحاها، بلا عمل بعد أن تمّ نقل السفن التي كانوا يعملون عليها من شركة إلى أخرى.
وكنتيجة لهذه الصفقة تمّ طرد البحّارة بعد أن أمضوا سبع سنوات في العمل في الشركة المعنيّة. وخلال مظاهرة نُظمت في أبريل 2021، التمسوا من رئيس الجمهورية التدخل لإجبار أصحاب العمل على دفع التعويضات اللازمة، أو إعادة البحّارة المسرّحين للعمل. ولكن تمّ تجاهل هذه القضية، مثل العديد من الحالات الأخرى المشابهة، واضطرّ البحّارة للبحث عن العمل في أماكن أخرى، وبالنّسبة لأولئك الذين لم يجدوا سبيلا إلى ذلك، فقد اتجهوا للعمل لحسابهم الخاص لتأمين معاشهم.
وبينما تتزايد حالات الفصل التعسفي والجماعي، تواصل السلطات إدارتها للوضع، حالة بحالة؛ وفي رسالة مفتوحة موجّهة إلى رئيس الجمهورية في يونيو/حزيران 2020، أكّد البحارة أنّه يكاد يكون من المستحيل عليهم اللجوء لمحاكم الشغل، وأنّ العديد من حالات الفصل عن العمل، التي تحدث في هذا القطاع المُهَمَّش جدّا لا يتم حلّها فقط إلّا عن طريق مسؤولي وزارة الإشراف، وذلك بالطبع، في حال يكونون على استعداد واضح للقيام بعملهم.
لقد كان استخدام بحارة أجانب على متن السفن الموريتانية أثر كبير على ظروف عمل البحارة المحليين. وأدّت المنافسة المتزايدة في سوق العمل البحري إلى انخفاض فرص العمل بالنسبة للبحارة الموريتانيين، الذين يجدون أنفسهم في بعض الأحيان ينزلون إلى مناصب أدنى في العمل أو يتمّ استبعادهم بالمرّة من القطاع.
ومن الواضح أنّ هذا الوضع يخلق شعوراً بالظلم وانعدام الأمان لدى البحارة الموريتانيين، الذين يطالبون بوضع شبكة للأجور تكون واضحة ودقيقة، لمنع الشركات من توظيف البحارة الأجانب بتكاليف أقلّ ويحمي في نهاية الأمر، العمال الموريتانيين والعمال الأجانب.
بين الأمواج القاتلة
في ديسمبر 2022، وعقب اجتماع مع وزير الصيد والاقتصاد البحري، السيد محمد ولد عابدين ولد امعييف، أشار المفوض الأوروبي للبيئة والمحيطات والثروة السمكية، فيرجينيوس سينكيفيوس، إلى «نقص الكفاءة المهنيّة لدى البحارة الموريتانيين، خصوصا في مجال السلامة البحرية». وإنّ عدد الحوادث في البحر التي تؤدي إلى فقدان العديد من الأرواح في صفوف البحارة والصيادين يدلّ للأسف على هذا النقص في السلامة.
وسط مياه المحيط الممتدّة، تختبئ حقيقة مؤلمة وغير معروفة وهي معاناة البحارة الموريتانيين. فطيلة سنوات يتعرّض هؤلاء الرجّال الشجعان لأخطار مميتة، يواجهون حوادث مأساوية أثرت في حياتهم وفي بلدهم. وتتشابك حالات الحرمان من الحقوق وحوادث العمل والوفيات في حكاية مظلمة ومؤثرة.
إنّ صدى قصص حوادث البّحارة في موريتانيا يتردّد كأصداء قاتمة في أعماق التاريخ البحري للبلاد. في عام 2016، غرقت سفينة صيد موريتانية قبالة السّاحل، وأودت بحياة البحارة الذين كانوا على متنها، وتركت أسرهم في حالة من الحزن واليأس العميق، وضلّت جراح هذه المأساة لا تُمحى في النسيج الاجتماعي.
وليس هذا سوى مثال واحد من بين العديد من الأمثلة الأخرى، حيث شهدت السنوات التي تلت ذلك، سلسلة من الحوادث المأساوية، التي تعرّض فيها البحارة الموريتانيون إلى حوادث عمل كارثية. فقد هاجمت البعض منهم العواصف الشديدة، وتقاذفته الأمواج العاتية، بينما كابد آخرون الإبحار بسفن متداعية متهالكة، ممّا أدّى إلى حوادث اصطدام مميتة أو غرق كان بالإمكان تجنّبها.
إنّ ما ينجم عن هذه الحوادث يتعدّى الخسائر في الأرواح البشريّة، بل إنّها تترك ندوبًا لا تمحى في حياة النّاجين. وتصبح الإصابات الخطيرة وبتر الأطراف والصدمات الجسدية والنفسية العبء اليومي للبحارة النّاجين. تتداخل كوابيس المآسي بصدى الأمواج، لتكوّن سمفونية مؤلمة تطارد عقولهم.
وقد فاقم الحرمان من الحقوق الأساسية آلام هذه الحوادث. إذ يواجه البحارة الموريتانيون بالفعل استغلالا اقتصاديا صارخا، فهم يعملون في ظروف غير إنسانية ودون حماية قانونية كافية. لقد تم استغلال قوتهم العاملة بلا رحمة، وانتهكت حقوقهم، وتركوا رهائن لنظام قاس يتجاهل كرامتهم وقيمتهم كبشر.
من الضروري ألاّ تنسى هذه الأحداث، وألاّ تتلاشى في غياهب التاريخ. بل على العكس من ذلك، يجب أن تكون هذه الأحداث حافزا للتغيير. على المجتمع الموريتاني والمجتمع الدولي توحيد الجهود لوضع حدّ لدوّامة المعاناة هذه. هناك حاجة إلى قوانين أكثر صرامة ومزيدا من المراقبة ووعي جماعي لحماية البحارة الموريتانيين من مآسي جديدة وضمان ألاّ يكون عملهم في البحار مرادفًا للموت واليأس.