
في البلدان المستعمَرة، غالبًا ما يقع استغلال اليد العاملة المحليّة لخدمة مصالح القوّة الاستعمارية، وفي هذا المجال لا تمثّل فلسطين استثناء. ففي الأراضي الفلسطينية المحتلة، يقوم سماسرة إسرائيليّون بتوظيف النّساء الفلسطيّنيات للعمل في إسرائيل في وظائف موسميّة وغير مستقرّة في أغلب الأحيان، ممّا يعرّضهّن لانتهاكات متعدّدة. وعلى الرّغم من القيود على التنقّل التي تفرضها قوات الاحتلال، تجد هؤلاء النّساء أنفسهنّ مجبرات على عبور الخط الأخضر يوميًّا للعمل في المصانع والمزارع الإسرائيلية، مقابل أجور زهيدة. وفي وقت تحرم العاملات من جميع حقوقهنّ، تجدن أنفسهنّ عاجزات عن الدّفاع عن مصالحهنّ جماعيّا وغير قادرات على الانضمام لنقابات.
وفي هذا الإطار كشفت عائشة حمودة، رئيسة دائرة المرأة في الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين ورئيسة لجنة المرأة في الاتحاد العربي للنقابات، أنّ عدد النّساء الفلسطينيات العاملات في إسرائيل هامّ لا يستهان به، حتى وإن لم تتوفّر أرقام دقيقة في هذا المجال. تقول النّقابية إنّه :«إذا لم تكن لدينا إحصاءات دقيقة عن عدد النّساء الفلسطينيّات اللاتي يعملن في إسرائيل، فذلك يرجع إلى أنّ أغلبهنّ ليس مصرّحا بهنّ، فضلا عن أنّهنّ يخترن عدم الإفصاح عن ذلك بسبب الأحكام المجتمعية المسبقة. لكنّنا مع ذلك نعلم أنّ هؤلاء النساء عمومًا، ليس لديهن خيار آخر وأنّهن مضطرّات إلى العمل في الأراضي المحتلة لإعالة أسرهن « .
أحلام (كما سنسميها في هذا المقال حفاظا على سرّية هويّتها)، امرأة فلسطينية تبلغ من العمر 40 عامًا، مطلقة وأمّ لطفلين، تروي الظروف التي دفعتها للعمل في إسرائيل. فتقول: « وجدت نفسي وحيدة أواجه مصيري بمفردي، وكان لي هدف واحد هو توفير احتياجات أطفالي والحرص على ألاّ ينقصهم شيء. حاولت العثور على عمل في منطقتي، لكنني سرعان ما أدركت أّن الحلّ الوحيد بالنسبة يوجد على الجانب الآخر من الخط الأخضر، وهكذا بدأت رحلة العذاب»، بهذه الكلمات بدأت أحلام تروي مغامرتها المؤلمة.
خلال السنوات الماضية، أقام الجيش الإسرائيلي المئات من نقاط التّفتيش في كلّ أنحاء الضّفة الغربيّة وقطاع غزة، ممّا تسبّب إلى حدّ كبير في تقييد حرية تنقّل الفلسطينيين. وغالبا ما تتعرّض النساء اللاتي يضطررن للمرور عبر نقاط العبور هذه للتحرش الجنسي والمضايقات من قبل الجنود الإسرائيليين.
وتتابع أحلام حديثها: «كان عليّ عبور نقاط التفتيش يوميًّا، هاجسي الوحيد، هو تنفيذ جميع الأوامر والتعليمات التي سيوجّهها إليّ الجنود، مخافة أن يصادروا تصريح عملي»، مشيرة إلى أنّ أسوأ ما في الأمر هو التهجّم اللفظي عليها من العمّال الفلسطينيين الذين يعتبرون أنّه لا ينبغي على المرأة أن تعمل في الأراضي المحتلّة. تقول أحلام: «إنّهم لا يراعون الظروف التي تدفع نساء مثلنا إلى ترك منازلهنّ وأطفالهنّ والمخاطرة بحياتهن في إسرائيل للعمل هناك، إنّهم لا يفهمون أنّه ليس لدينا خيار وأنّنا ما نفعل ذلك إلاّ لإطعام عائلاتنا وأطفالنا».

أمّا بالنسبة للوضعية القانونية والمهنية، فإنّ العاملات الفلسطينيات لسن أفضل حالا في هذا المجال أيضا، سواء من ناحية التشريعات الإسرائيلية أو التشريعات الفلسطينية، إذ لا يتمّ التعامل معهنّ كعمالات بل “كسلع” تباع وتشترى لسد احتياجات أيّ مصنع. وأوضحت عائشة حمودة في هذا الصّدد أنّ «الفلسطينيات لا يطبّق عليهنّ الحدّ الأدنى للأجور ولا معايير الصّحة والسّلامة في العمل، بل ولا حتى توجد لهنّ قوانين تحمي من الاستغلال والتحرّش، فهنّ بلا حماية أمام أخطار حوادث العمل والفصل التعسفي وأيّ نوع من الانتهاكات الأخرى .والنتيجة أنّ العاملات اللاتي يصبن في أماكن عملهنّ يُلقى بهنّ في أقرب معبر، بينما تلك اللاتي يتمّ فصلهنّ من العمل حتى وإن كنّ يشتغلن بشكل قانوني، لا يتمتّعن بمنحة بطالة ولا بأيّ نوع من التأمينات، نظرا لأنّهنّ يعملن في إطار عقود. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ العاملات والعمّال الفلسطينيين الناشطين في الأراضي المحتلّة ليس لديهم الحق في الانضمام إلى نقابة» .
لقد عاشت أحلام تجربة هذا الانعدام التام للحماية. فقد تمّ طرد هذه الأربعينية من وظيفتين. المرّة الأولى كانت بسبب رفضها إقامة علاقة جنسية مع صاحب العمل، والثانية بسبب احتجاجها على نقص مرافق العمل الأساسيّة. حيث تقول: « لقد طُرِدتُ من مصنع لأنّي رفضت محاولات صاحب العمل ابتزازي لاستدراجي لمآربه، ولكن هناك من زميلاتي في العمل، ممّن يعشن في ضائقة مادّية، من كنّ مجبرات على القبول بذلك، مقابل أن يبقين في عملهنّ. وفي مرّة أخرى، كنت أعمل في مزرعة، وتمّ طردي بسبب احتجاجي على عدم وجود مرافق صحيّة …. ففي تلك المزرعة، كنّا نضطرّ عند قضاء حاجتنا البشرية للذهاب خلف الجبل كحيوانات» .
وفي هذا الإطار، ذكرت عائشة حمودة أنّ الاتحاد العام لنقابات عمّال فلسطين جعل من الوضعية الهشة للعاملات الفلسطينيات في الأراضي المحتلة، إحدى أولويّاته. فالمنظمة على تواصل مباشر معهنّ وتتابع أوضاعهن المهنية باستمرار. وأفادت حمودة: «نحن نعمل على توثيق جميع الانتهاكات التي يتمّ إبلاغنا عنها، على غرار هذه الشهادة التي تمكّنتم من مشاهدتها»، مضيفة أنّ الاتحاد يحرص في الآن ذاته على توعية هؤلاء العاملات بموضوع التحرش المعنوي والجنسي الذي يمكن أن يتعرّضن له، وهو يعمل حاليًا على إعداد تقرير سوف يتمّ تقديمه إلى لجنة التّحقيق التابعة للاتحاد الدّولي للنقابات .
بيد أنّ المسؤولة النّقابية تؤكّد أنّه على المجتمع الدّولي ممارسة ضغوط على قوات الاحتلال ومقاطعة النّقابات الإسرائيليّة التي لا تقوم بأيّ دور لحماية العاملات والعمّال الفلسطينيين. فذلك «من شأنه أن يساعد في التعويض عن عجز السلطة الفلسطينيّة ونقاباتنا، التي لا تتمتع بأيّ سلطة فعليّة للدفاع عن العاملين في الأراضي المحتلة، لا سيما أنّ كثيرين منهم معرّضون لمواد كيمياوية ذات تأثير على صحّتهم الإنجابية بالخصوص على المدى البعيد» وفق قولها.
وأمام هذه الأوضاع الهشّة وهذا الاستغلال المفرط، تحاول السلطة الفلسطينية حماية حقوق العاملين الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة، بالخصوص من خلال مفاوضات تجريها مع منظمة العمل الدولية. غير أنّ هذه المفاوضات لا تسفر عن أيّ نتيجة نظرا إلى أنّ قوات الاحتلال ترفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية، معتبرة أنّها لا تمثل مرجعا لتمثيل العاملين، ممّا يجعلهم يبقون فريسة للسماسرة، محرومين من كل حقوقهم.