تونس عنصرية؟ كيف تسبب خطاب سعيد في كارثة العقد

قرّرت إدارة البنك الدّولي التعليق مؤقّتا لمناقشاتها مع تونس حول إطار الشراكة القُطْريّة، الذي يحدد التوجهات الاستراتيجية لأنشطة العمليات في المدى المتوسط 2023-2027 . 

ويأتي قرار البنك الدولي في أعقاب أعمال العنف والاعتداءات التي استهدفت مهاجرين من جنوب الصحراء في البلاد. هذه الحوادث اندلعت إثر خطاب ألقاه رئيس الجمهورية في فبراير الماضي ندد فيه بـ “جحافل المهاجرين غير الشرعيين

وقائع كارثة معلنة

رعايا من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء يغادرون تونس في 4 مارس 2023 / فتحي بالعيد – وكالة الأنباء الفرنسية

تونس، التي تعدّ حوالي 12 مليون نسمة، تأوي على أراضيها أكثر من 21000 مواطن من دول إفريقيا جنوب الصحراء، بصفة غير قانونية بالنسبة لأغلبهم، وفقًا للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وقد شهد الكثير منهم تعرّض حياتهم اليومية إلى أعمال عنف على إثر تصريحات أدلى بها الرئيس سعيد؛ فمنذ هذا الخطاب، تضاعفت الاعتداءات التي تستهدف أشخاصا منحدرين من إفريقيا جنوب الصحراء. وتلاحقت الأحداث من اعتداءات في الشارع، إلى تسريح من العمل وطرد من السكن، تداولها مهاجرون عبر الشبكات الاجتماعية وهم في حالة يأس المطلق.

مناخ الرّعب هذا، كان مصدره خطابا ألقاه الرئيس قيس سعيد، في 21 فبراير، أعلن فيه أنّ الهجرة غير النظامية في تونس هي “ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس” بهدف تحويلها إلى دولة “أفريقية فقط” وطمس طابعها “العربي الإسلامي“. وفي هذا السياق دعا سعيد إلى اتخاذ “تدابير عاجلة” ضد “جحافل المهاجرين غير الشرعيين” القادمة من إفريقيا جنوب الصحراء، والتي يشكل وجودها، حسب رأيه، مصدر “عنف وجرائم وأعمال غير مقبولة” .

وهكذا فبعد أيام قليلة من صدور هذه التصريحات النارية، وقع أربعة مهاجرين من جنوب الصحراء ضحية لاعتداءات بالأسلحة البيضاء في ليلة 25 فبراير في صفاقس، بينما تمّ تعنيف أربع طالبات من كوت ديفوار في تونس لدى مغادرتهنّ مبيتهنّ الجامعي، كما تعرّضت في نفس اليوم، امرأة غابونية للاعتداء عند مغادرتها منزلها. وكانت تلك الهجمات بمثابة بداية لحملة واسعة من الاعتداءات والتمييز والعنف ضدّ المهاجرين من جنوب الصحراء.


إدانات ومظاهرات تأييد

مظاهرة لدعم المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى انتظمت في تونس يوم 25 فبراير. / وكالة الانباء الفرنسية / فتحي بالعيد

بعد أقل من أسبوع من الخطاب المثير للجدل، أصدر الاتحاد الأفريقي بيانًا ذكّر فيه بأنّ تصريحات الرئيس التونسي “تتعارض مع الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، لا سيما المادة 2 التي تحظر أي تمييز على أساس العرق والمادة 5 بشأن احترام كرامة كلّ إنسان “. وندد رئيس الاتحاد موسى فقي محمد “بشدة بالتصريحات الصادمة الصادرة عن السلطات التونسية ضد مواطنين الأفارقة والتي تتعارض مع رسالة وروح منظمتنا ومبادئنا التأسيسية”.

أمّا في العاصمة تونس فانتظمت يوم 25 فبراير/ شباط، مظاهرة كبيرة لدعم المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى. وندّد المتظاهرون فيها بتصريحات الرّئيس، مؤكّدين أنّ العنصريّة لا مكان لها في تونس وأنّ جميع المهاجرين مرحب بهم على أرضها.

كما شجبت حوالي عشرون منظمة غير حكومية تونسية، منها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في بيان لها، صعود “خطاب الكراهية” والعنصرية في البلاد ضدّ المهاجرين المنحدرين من أفريقيا جنوب الصحراء. وأضاف الموقّعون على البيان أنّ “الدولة التونسية تصمّ آذانها عن تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام” .  ووضعت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات من جانبها، مركز الاستماع التابع لها – المخصّص عادة لدعم النساء ضحايا العنف- على ذمة جميع المهاجرين المحتاجين.

إلى جانب ذلك أطلق العديد من المواطنين تظاهرات دعم أخرى على شبكات التواصل الاجتماعية ونظّموا حملات لجمع الملابس والأدوية والمساعدات المالية وحتى المساكن المؤقتة لصالح المهاجرين الذين تعرّضوا للعنف. وهي لفتات تضامنية على الرغم من بساطتها تمّ تناقلها شفويا لتقديم العون لأولئك الذين وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها بلا عمل ولا مسكن ولا أيّ وسيلة للعيش.


عمليات إعادة جماعية

مهاجرون من جنوب الصحراء يصطفّون أمام مطار تونس قرطاج في إطار رحلات العودة التي تنظمها بلدانهم 

هذه الموجة غير المسبوقة من العنف دفعت مئات المهاجرين إلى اختيار العودة إلى بلدانهم الأصليّة. حيث وصل 145 مواطنا من كوت ديفوار، منهم 45 امرأة وعدة أطفال، إلى أبيدجان يوم السبت 4 مارس/آذار. وكان في استقبال العائدين رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية وعدد من أعضاء الحكومة. وتمّ إيواؤهم، إثر الإجراءات الإدارية والأمنية، في مركز الإيواء المؤقت الذي أُعدَّ في معهد الشباب والرياضة بماركوري .

بيد أنّ رئيس اتحاد الإيفواريين في تونس، آنج سري سوكا، شدّد على ضرورة استمرار الجهود لتمكين المزيد من الأشخاص من العودة إلى أوطانهم. وذكر في هذا الإطار “إنّنا قرابة 5000 إيفواري على الأراضي التونسية ولدينا حاليّا مواطنون ينامون في حقول الزيتون ولا مأوى لهم لأنّه تمّ طردهم من المنازل. نحن نطلب من الدّولة الإيفوارية التفاوض مع الدولة التونسية حتى يتمكن هؤلاء الأشخاص من القدوم بسهولة إلى السفارة ليتمّ ضمّهم” .

أمّا السّلطات الغينية فسيّرت من جانبها، رحلة جوية خاصّة يوم الأول من مارس /آذار لإعادة 49 من مواطنيها. وكان في استقبالهم الرئيس المؤقت، العقيد مامادي دومبويا، ووزير الخارجية موريساندا كوياتي، وقد أعرب العديد من العائدين عن ارتياحهم لرجوعهم إلى الديار بعد الاعتدءات التي تعرّضوا لها في تونس. وأكّد موريساندا كوياتي على فتح جسر جويّ لإعادة جميع الغينيين من تونس.

ومن جهة أخرى ذكر دبلوماسي مالي في تونس، فضل عدم الكشف عن اسمه، أنّ بلاده استأجرت طائرة لإعادة 150 شخص بأمر من رئيس المجلس العسكري أسيمي غويتا، الذي أعطى “تعليمات صارمة للغاية لمجابهة” محنة مواطنيه. وأخبر العائدون في شهادات لوكالة فرانس برس ما شهدوه من “تفاقم الكراهية” بعد خطاب قيس سعيد، و“كابوس” دام أياما عديدة.


مظاهرات خارج الحدود ونداءات للمقاطعة 

تجمّع عدد من الجمعيات للتنديد بتصريحات الرئيس التونسي بشأن المهاجرين من جنوب الصحراء. © إليمان نداو ، فرنسا 24

أثارت تصريحات سعيد المثيرة للجدل موجة كبيرة من الإستياء على الشبكات الاجتماعية، في مالي والسنغال وكوت ديفوار وغينيا، حيث تداول مستخدمو الإنترنت دعوات المقاطعة للمنتجات التونسية. وتمّ عرض قائمات لهذه المنتجات على مواقع التواصل الاجتماعي تحت شعار “نحن نقاطع“.

وذكرت صحيفة مزاييك غينيا(Mosaïque Guinée)  كذلك أنّ “العديد من الفاعلين الاقتصاديين الغينيين أوقفوا شراء واستيراد المنتجات التونسية إلى كوناكري، بالنظر إلى كل ما يتعرّض له مواطنوهم وجيرانهم في المنطقة على يد السلطات والسكان في هذا البلد العربي. “. وكشف رئيس مجلس الأعمال التونسي الأفريقي، أنيس الجزيري، أن خلية الأزمة في منظمته قد توصلت إلى استنتاجات مثيرة للقلق بعد اتصالها بأطراف اقتصادية فاعلة مختلفة في القارة.

«حجز بضائع تونسية في عدد من الموانئ الافريقية، وإلغاء طلبات عروض وحتى لصفقات، وحملة لمقاطعة المنتجات التونسية في عدد من دول جنوب الصحراء، وإعادة توجيه المرضى نحو وجهات أخرى، وعودة عشرات الطلبة إلى بلدانهم الأصلية، وإلغاء رحلات العديد من رجال الأعمال من بلدان جنوب الصحراء، وإلغاء لبعثات، ومعارض، ومنتديات … »

وفي نفس السياق، نظّمت حركة “فراب” في داكار بالسنغال، تجمّعا احتجاجيّا أمام السفارة التونسية للتنديد “بمطاردة الأفارقة السود في تونس واضطهادهم التي أثارتها تصريحات الرئيس غير المسؤولة والعنصرية والكارهة للسود”. وتمّ إيقاف بعض المتظاهرين، من  بينهم نائب برلماني، لتمّ اطلاق سراحهم في وقت لاحق. كما نظّمت عدّة جمعيّات ومنظمات من المجتمع المدني يوم الجمعة 10 مارس/آذار، أي بعد ثلاثة أسابيع من خطاب سعيد، مؤتمرا صحفيّا في العاصمة السنغالية لتقييم الوضع ودعوة الرئيس التونسي إلى تقديم اعتذار علنيّ، ممّا يدلّ على أنّ الغضب ما يزال لم يهدأ في السنغال وخارجها .


إن لم تستطع تلميع صورتك غيّرها

الرئيس قيس سعيد يستقبل رئيس غينيا بيساو أومارو سيسوكو إمبالو في تونس العاصمة يوم 8 مارس 2023 © رئاسة الجمهورية التونسية

أمام الكارثة، يحاول سعيد بصعوبة الدفاع عن نفسه. فخلال لقاء مع رئيس غينيا بيساو أومارو سيسوكو إمبالو، الذي توقف في تونس يوم الأربعاء 8 مارس/آذار، زاد الرئيس التونسي الوضع تعقيدا، إذ ولإثبات أن الاتهامات بالعنصرية التي وجهت إليه منذ خطابه الشهير المؤسف  في 21 فبراير لا أساس لها من الصحة، صرّح بأنّ “عددًا من أفراد العائلة (عائلته) المتزوجين من أفارقة والأصدقاء (أصدقاؤه) من كلّية الحقوق في تونس كانوا أفارقة”. ومرّة أخرى، كلمات صدمت، وأحزنت، وآلمت المجتمع .

أمّا السلطات التونسية فأعلنت يوم 5 مارس/ آذار، عن سلسلة من التدابير لفائدة طلبة ومهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، بإصدار “تصاريح إقامة لمدة عام للطلاب من مواطني الدول الإفريقية الشقيقة لتسهيل إقامتهم وتمكينهم من تجديد وثائقهم بصورة دورية “أو أيضا ” تمديد شهادات الإقامة من ثلاثة إلى ستة أشهر” .

بينما أعلنت وزارة الداخلية من جهتها أنّ رقما أخضر (80.10.11.11) انطلق “تشغيله بقاعة العمليّات المركزيّة بالوزارة لتسهيل الخدمات وتوفير المعلومات المطلوبة للمهاجرين”.


وضع العمال الأجانب في ظل القانون التونسي

في مقال علمي نُشر في المجلة الأوروبية للهجرات الدولية بعنوان “العمال المهاجرون من جنوب الصحراء في تونس في مواجهة القيود التشريعية على تشغيل الأجانب”، أوضح مصطفى نصراوي أنّ “دخول الأجانب إلى سوق العمل التونسي صعب للغاية. فهناك إجراءان قانونيان صارمان يمنعان توظيفهم: أوّلا، القانون رقم 1968-0007 المؤرخ 8 مارس 1968 ، المتعلق بوضعية الأجانب في تونس. زيادة على وثائق الدخول والإقامة المفروضة، ينصّ هذا القانون، في المادة 23 منه، على أنّ كل أجنبي لا يتقدم خلال الأجل القانوني للحصول على تأشيرة إقامة وبطاقة إقامة أو تجديدهما عند انتهاء مدّة الصلاحية يعاقب بالسجن سنة وغرامة تراكمية “. إلاّ أنّ السلطات التونسية نادرا ما تمدّد الإقامة السياحية التي مدّتها ثلاثة أشهر، مما يجعل العديد من المهاجرين في وضعيّة غير قانونيّة. وبالإضافة إلى تصريح الإقامة، يجب أيضا على الأجانب الحصول على تصريح عمل، يصعب إصداره بسبب اشتراط عدم توفّر كفاءات تونسية في التخصّصات المعنيّة. ويذكّر مصطفى نصراوي أنه “أمام استحالة دفع الغرامات المتراكمة من أسبوع إلى آخر، يجد كثير من المهاجرين أنفسهم شبه محبوسين في البلاد، وليس لديهم أي خيار سوى القبول بأكثر الأعمال هشاشة والأشدّ صعوبة لتأمين العيش ودفع الغرامات إذا عزموا يوما ما على مغادرة البلاد “.

في مايو 2018، افتتحت المركزية النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل أول “فضاءات للمهاجرين” في مكاتبه بتونس وسوسة. وتوفر هذه الفضاءات للعمال المهاجرين، بغض النظر عن وضعيتهم، الحصول على معلومات قانونية وإداريّة، وأنواع محدّدة من التدريب والخدمات العملية (المصالحة في حالة مشاكل العمل).

كذلك أحدث الاتحاد العام التونسي للشغل في ديسمبر 2020، سابقةً في المنطقة العربية بقبوله انخراط العمّال الأجانب في مختلف هياكله. وبيّنت المركزية النّقابية أنّ قرارها يهدف إلى “توفير إطار نقابي وقانوني يحمي العمال الأجانب في تونس ضدّ الاستغلال والعنصرية وانتهاك حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية” .